الرئيسية › منتديات › مجلس الثقافة الأدبية والشعر › شقة باردة !
- This topic has رد واحد, مشاركَين, and was last updated قبل 16 سنة، 5 أشهر by قلبي دليلي.
-
الكاتبالمشاركات
-
27 يوليو، 2008 الساعة 7:13 ص #98533memo_yafaمشارك
شقة باردة !
الشقة باردة ومقفرة، وتصبح مع مرور الأيام مخيفة…
وهي في تلك الزاوية تقبع في صمت ألفته، وملايين الأفكار التي تراودها تتخذ في بالها مستقرا فلا تكاد تفارقه، ولا تهرب من هاجس إلا لتلقي بنفسها في أحضان الآخر، غريب هو تكالب الهواجس عليها، فمنها ما صنعته مخيلتها، ومنها ما صنعه الناصحون..أولئك الذين لم تطلب مشورتهم يوما، بل كانوا متفانين في تقديم آرائهم من ذات أنفسهم.
مع مرور الأيام تتناقص الأشياء من حولها، وكأنها في إثبات أن كل شيء إلى زوال، وأن ماهو كائن سوف لن يكون بعد وقت قصير…
حين جاء المساء بثقله المعتاد، ووحشته التي توقظ على نفسها أصنافا من العذابات، أسرعت تحتمي بضوء شمعة أشعلت فتيلها للتو، وجلست القرفصاء بين يديها تتأملها..
إن حياتها تحاكي قصة الشمعة، مع اشتعال الفتيل الدقيق تستمر في الذوبان لتستحيل من ذات قامة فارهة سامقة، إلى كومة من الشمع مطموس المعالم لا يميز له شكل، ويكتفي بالالتصاق على الشمعدان على أمل.. أو بالأحرى من غير أمل في العودة إلى حياته السابقة…
نعم، هي مثل الشمعة، غير أن الشمعة احترقت لتبعث بضوء يخلف بعض العرفان في ما حولها، وهي تحترق وحيدة في صمت، من دون أن يعيرها أحد اهتمامه أو يعترف لها بدور..
وتجيل بصرها الواهن في أنحاء الشقة، حيث رسم الضوء الخافت خيالات وأطيافا تساكنها.. وتسعى جاهدة لالتقاط أثر ذكرى تلقي بنفسها بين أحضانها خوفا وطمعا..
لم يبق غير بضع قطع من الأثاث المتبعثرة في غير نظام معين، حصير فوقه سجادة بالية، فرشتها التي تتخذها متكأ حين تقيل، ثم هذه الجدران النصف مدهونة بالجير الأبيض… حتى الجدران باتت شاحبة وكأنها بها قد تتخلى عن لونها هي الأخرى، وأن معالم المكان قد قررت أن تستسلم للرحيل.. وتختفي، بالذات كما اختفى هو من حياتها..
صحيح أنها زغردت يوم جاؤوا به محملا..
صحيح أنها خضبت يدها ببعض من دمه القاني..
صحيح أنها بقيت لأيام طويلة تشم منديلها وثوبها الذي اعترته بقع من دمه، قبل أن تنتقل تدريجيا إلى الصفوف الخلفية في خزانة ثيابها.. ثم تختفي في قعرها، حيث المنسي من الأغراض التي لا تذكر وجودها..
صحيح أيضا أنها صبرت..
صحيح أنها افتخرت بوضعها الجديد أحيانا بين النسوة اللائي كن يزرنها، قبل أن تقل زياراتهن شيئا فشيئا.. ثم تختفي من برنامجها اليومي تماما مراسيم استقبالهن.
وصحيح أنها تقف اليوم وحيدة على حاف الذكرى
لملمت شتات نفسها المبعثرة في أركان الشقة، وخلدت للنوم بعد أن أطبقت بسبابتها والإبهام على الفتيل المشتعل في وهن..***
تنهدت بصمت وهي تفتح الباب لأختها حين جاءت لزيارتها، تحمل رضيعها على ظهرها وتسحب أحد ولديها خلفها، في حين كان الآخر يركض أمامها جيئة وذهابا، فالشقة الخالية بدت في ناظره متسعا يمرح فيه على خلاف الزوايا الضيقة في المخيم.
كانت أختها تتحدث عن الجارات وقصصهن وهي أمامها تكاد لا تعي كلماتها، وظل بصرها يتابع الولد الشقي في قفزاته وحركاته المشاغبة، تمنت للحظة لو أنها رزقت من زوجها بمولود يؤنس وحشتها، لكنها سرعان ما سحبت نفسها من هذه الخاطرة كمن وقع في محظور، فماذا يكون مصيره وهي بالكاد تدبر مؤونتها، من أين تصرف عليه؟؟
جاءت الجملة التي سمعتها من فم أختها عشرات المرات قبل الآن وكأنها توحي لها بشيء جديد جدة لا خلاف فيها:
– إلى متى ستعيشين هكذا من غير كفيل؟ ثم إنك لاتزالين صغيرة، وألف واحد يتمناك.. وإن تمنعت فتستكبرين، وحينها ستجدين نفسك منسية.. منسية تماما.
رن هذا السؤال في رأسها طويلا وهي تراقب شمعة تلك الليلة.***
الشقة باردة، وأركانها مظلمة بشكل مخيف، والوحدة تصنع في جنباتها صفيرا يورثها وحشة على وحشة..
قريبا جدا ستختفي كل الموجودات في البيت، وتصبح بعد أن باعت ما يباع منها، عالة تستجدي الناس..
– أرأيت، لا حل غير الزواج، ثم إنه ليس حراما ولا عيبا، هو حق وضرورة.. ولا يغرنك ما يقلن لك.. أتركي من يريد أن يلعب دور البطولة ليلعبه، فحياتك أنت بالذات يجب أن تستمر ..
كان صوت آخر يهمس كمن هبط عليه وحي من السماء في ساعة ضائقة
– ما رأيك في جارنا، أبو محمد، رجل والرجل لا يعيبه غير نقص ماله.. وقد سمعت أنه يبحث عن عروس ينجب منها بعد أن اتضح أن زوجته الأولى عاقر.
تبادرت إلى ذهنها صورته، ابتسامته البلهاء، وطاقية يخفي تحتها صلعته حين تلفحها أشعة الشمس فتلهبها وتشعلها عرقا من طول قعدته أمام بسطته في السوق..
وتذكرت الشمعة، كان قد اختفى نصفها وتكدس عند منبتها..
صادف أنها لا تحب الأضواء كثيرا، وستبقى مجرد رأس بين الرؤوس، يصيبه ما يصيب من سواه، لا هو بالبارز فيسهل اجتثاثه، ولا هو بالضامر فيسهل سحقه..
لم تنم ليلتها تلك، فقد حسمت أمرها بما لا رجعة فيه.***
أبلغت قريبته بموافقتها، قالت نعم وأشاحت بوجهها ، ليس خجلا كما تفعل العذارى حين يهممن بالإجابة، ولاخوفا من أن يصطبغ خداها بلون الشفق، فقد كبرت على ذلك.. وإنما حتى لا تخونها تعابير وجهها، ويظهر المضض، المضض الذي تلونت به جدران البيت، وأصبح بدلا للجير الذي طالما كساها…
أسرعت إلى تكميم فاه أختها التي همت بإطلاق زغرودة في الأجواء
– لا تفضحينا..
لم تكن قادرة على الرد على أختها التي تبرمت من سلوكها،ولا على مداراة المرأة التي تقف قبالتها باستغراب، كانت تريد أن ينتهي كل شيء بسرعة ومن دون نقاشات وسواء أكان اختيارها هذا بدافع الاقتناع أم بدافع الحاجة، فالنتيجة واحدة.
وحدد موعد الزفاف في أقل من أسبوعين، تنتقل بعدهما إلى بيته في الجهة المقابلة من الشارع الضيق.***
الشقة باردة ومخيفة، وأطرافها موحشة، لم تجرؤ على التجول فيها يوما بحرية، بل كانت تسرع إذا بلغت أركانها وكأنها تمر على أرض عذاب..
وأشياء كثيرة من حولها، تبدو بلهاء ليس لمكانها تفسير معين ولا ترتيب ذو معنى.. خالية من كل ذوق، قد وضعت كما اتفق.
صوت غليان الطنجرة الغاضبة يتناهى إلى مسمعها من المطبخ، للمرة الـ.. تظهر عيانا كومة من الثياب التي تنتظر دورها للمرور من مراحل الغسيل والشطف والنشر على السطح.
حين أزف المغيب وقد بلغ الإعياء منها مبلغا، أشعلت شمعتها الأخيرة، وتقرفصت أمامها كما ظلت تفعل كل ليلة، وتاهت تتأمل في لون الفتيل المشتعل.. حين أدركت أنها في بيت زوجها الثاني.
لم تتغير الدنيا، لم يختف البرد الذي كانت تحس به، ولم تكف الريح عن الصفير في الأركان، كل ما حدث، أن الشقة صارت على الناحية الأخرى من الشارع الضيق..28 يوليو، 2008 الساعة 9:01 ص #1117384قلبي دليليعضويسلمووووووووووو memo_yafa
-
الكاتبالمشاركات
- يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.