الرئيسية منتديات مجلس الصحة الطب الفيزيائى

مشاهدة 4 مشاركات - 1 إلى 4 (من مجموع 4)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #83203

    لا يخفى على كل ذي سمع وبصر أن الطب يتعرض في عصرنا الحالي لأزمة حقيقية ويعاني من مشاكل تستفحل يوماً بعد يوم. ونحن نرى أن أصل هذه الأزمة وتلك المشاكل يكمن في العلم الطبي ذاته، لينعكس على كل من الطبيب والمريض، وبالتالي على صحة المجتمع ككل. لذا سوف نحاول في هذه العجالة الإجابة عن السؤال التالي: هل يجوز للطب، أو حتى ينبغي له أو يستطيع الاقتصار على منهج العلم الطبيعي فقط في أبحاثه وتطوره، إنْ هو أراد فعلاً أن يستجيب بشكل إيجابي وفعّال لتحدّيات المرض والصحة؟ ثم أين موقعه الفعلي في إطار ما يُسمى في عصرنا بالعالم؟

    قبل حوالي مائة سنة أثبت “روبرت كوخ” أن الأمراض المُعدية، التي كانت تفتك بشعوب أوروبا، سببها عضويات حية مجهرية؛ فاكتشف عصية الجمرة الخبيثة ثم عصية السل والكوليرا. وأدى ذلك إلى اكتشاف علاجات فعّالة ضد هذه الأمراض. وبدا أن استئصال هذه الأوبئة الفتاكة أصبح قاب قوسين أو أدنى.

    اليوم، وبعد جيلين، تحقّق هذا الحلم فعلاً. استؤصِل الطاعون والجدري عالمياً، وتمت السيطرة على أمراض كانت تنشر الذعر والموت فيما مضى، كالكوليرا والحمى البقعية وشلل الأطفال والدفتريا والتيفوس. كما تراجع معدّل وفيات الرضّع وارتفع متوسط العمر بشكل قفزي.

    مع ذلك، لابد لنا اليوم من إثبات أن آمال آباء أجدادنا كانت آمالاً كاذبة، على الرغم من كل النجاحات المؤثّرة التي سطّرها الطب المدرسي الحديث. صحيح أن استئصال بعض الأمراض وتقديم الوقاية من الكثير من الأخرى قد أوصلا البشر إلى أعمار أطول، لكنهما لم يوفّرا الصحة المرجوة. فقد ظهرت أمراض “جديدة” وقف الطب المدرسي عاجزاً حيالها. إذن يمكن القول إن الطب يحول دون الموت (أو بالأحرى يؤجّل الموت)، ولكنه لا يأتي بالصحة.

    على الرغم من كل الجهود والمساعي والنفقات الهائلة على مستوى العالم، يتزايد باستمرار عدد تلك الأمراض، التي لا يفيد فيها الطب المدرسي، وتتضخّم جيوش المرضى التائهين بين عيادات الأطباء والمشافي ومراكز التشخيص، دون أن يجدوا العون الذي يطلبوه. ويعجز الطب عن إثبات أي موجود قابل للقياس عند العدد الأكبر من مجموع المرضى. كما لو أن الطب المدرسي قد تحوّل إلى طب للأمراض النادرة!

    هنا، لابد من الإشارة إلى تطور مثير للقلق يتجلى في حالة الاغتراب المزدوج الذي يتمثّل، من جهة أولى، في تزايد ابتعاد الطبيب والمريض أحدهما عن الآخر بهوة تزدحم فيها الأجهزة والأدوات والوسائل التشخيصية المعقّدة، ومن جهة ثانية في تزايد ابتعاد الطب عن الأطباء الممارسين الذين هم على احتكاك يومي مع المرضى، ويصادفون الكثير من الحالات والشكايات التي لا يقدّم لهم الطب أية وسائل لمواجهتها.

    يتمثّل واجب الطبيب في تقديم العون للمرضى. ولأداء هذا الواجب عليه استخدام الوسائل التي يضعها العلم تحت تصرفه. ولكن كيف يتصرف الطبيب إزاء أولئك المرضى الذين يعانون من أمراض لا يمكن لعلمه بعد أن يمدّه بالعدّة الضرورية في معركته ضدها؟ ماذا يفعل عندما لا تُسفر أشد وسائل التشخيص تعقيداً عن أية موجودات قابلة للقياس؟

    في مثل هذه الحالات، وما أكثرها، بإمكان الطبيب أن يسلك أحد دربين: إما أن يسعى إلى العلاج والشفاء على قاعدة ما قبل علمية، مستنداً إلى خبرات قيّمة معيّنة. علماً بأنها درب ليس من النادر أن تكون حافلة بالمخاطر بالنسبة للمريض والطبيب على السواء. فنجاح مثل هذه المعالجة أقل ضماناً بالتأكيد من الطرق العلمية المجرّبة. ويكمن الخطر الأكبر بالنسبة للطبيب في فقدان سمعته. ففي حال فشل المعالجة سوف يكون المريض أقرب إلى الاعتقاد بوقوعه بين يدي طبيب سيئ وفاشل منه إلى الشكّ في إمكانات العلم نفسه. أما الدرب الثاني فيتمثّل في استهانة الطبيب بمثل هذه الأمراض والإقلال من أهميتها. وفي هذه الحالة سوف يلقى دعم وتأييد العلم أكثر منه فيما لو سلك الدرب الأول واختار ما يُسمى “الطرق الدخيلة”. والحق أننا كثيراً ما نسمع الطبيب يقول للمريض إن الأمر لا يتعلّق بـ “أمراض جدّية محدَّدة تماماً”. وهنا يُقصّد بـ “جدّية” أنها “خطرة على الحياة”، متناسياً أن الأمراض الجدّية في عصرنا لم تعدْ تسبّب ذلك الذعر، الذي كانت تثيره فيما مضى، وذلك ليس لأنها تكاد لا تُصادف اليوم ولأن الطب يعرف علاجات فعّالة ضدها، بل أيضاَ لأن المصابين يتم عزلهم فوراً عن وسطهم الاجتماعي، ولا يعودون إليه إلاّ بعد النقاهة الكاملة. في حين يُنتظَر من “المرضى غير الجدّيين” إثبات كفاءتهم في العمل والعائلة وغيرها من الميادين الاجتماعية، على الرغم من أن الطبيب يقف عاجزاً أمام شكاياتهم. فإذا أضفنا إلى ذلك عدم تفهّم المحيط لهم وخوفهم من إمكانية التقصير، كان ذلك سبباً في نشوء خلافات ونزاعات في محيط العائلة ومكان العمل مع ما يعقب ذلك من إمكانية “الهروب” إلى الكحول وغيره على سبيل المثال. يا له من لولب تتضخّم لفّاته بلا نهاية! لذلك لابد من التأكيد منذ الآن أن الأمراض الجدّية لم تعدْ اليوم الأمراض “الخطرة على الحياة”، بل الأمراض “المهدِّدة للوجود”.

    أما رد فعل المريض، الذي عجز الطبيب عن تقديم العون له، فيمكن حصره في ثلاثة إمكانيات مختلفة.

    من الشائع معاوضة مثل هذه الشكايات اجتماعياً، حيث يسهُل تحمّلها، أو حتى تحويلها إلى رمز للوضع الاجتماعي. فقد جرى في هذه الأثناء فصل مرض المدراء- مرض النخبة عن أزمة منتصف العمر الأكثر ديمقراطيةً. كما يتزايد اليوم التفتيش عن معارف يعانون من الشكايات ذاتها من أجل العيش المشترك أو تشكيل مجموعات.

    لا شك في أن المريض، الذي يعجز طبيبه عن تقديم العون له، سوف يستشير أطباء اختصاصيين آخرين. وقد يقصد مركز للتشخيص يقوم بفحصه وتفحّصه “من رأسه حتى أخمص قدميه”، مضيفاً إلى شكاياته السابقة خيبات أمل جديدة؛ ليعلم في نهاية المطاف، بالتأكيد، كل ما لا يعاني منه، ولكنه لن يعلم مما يعاني فعلاً. يا لمتاهة التخصّص، التي يضلّ فيها المريض! فإذا عرفنا أن الاختصاصات الطبية هي اختصاصات أعضاء تشريحية (طب عيون، طب أنف وأذن وحنجرة، طب أسنان، طب جهاز بولي، طب هضمي إلخ)، وأن المرض لا يقتصر أبداً على عضو واحد، أمكننا القول، دون مبالغة، إن المريض بين يدي طبيب عالي التخصّص لا يُطبَّب بشكل ناقص وحسب، إنما يُعالَج بشكل خاطئ في الغالب.

    أخيراً، وبالنسبة لـ الطب، فكلنا على علم بما يُسمى بالأمراض طبابية المنشأ (iatrogen) الناجمة عن معالجات خاطئة أو تصريحات متهوّرة من قبل الطبيب, ومن المغالطة مساواة هذه الأمراض في لغتنا اليومية بـ “الأخطاء الفنية”. من المعروف أن الخطأ الفني يتوافر عندما ينحرف الطبيب في معالجاته عن المستوى المعرفي للطب، وذلك عن استهتار أو تهاون أو جهل. ولكن هل يجوز الكلام عن أخطاء فنية عندما تكون مثل هذه المعارف مُفتقَدة أصلاً ؟ هل يُفترَض بالطبيب رفض معالجة مرضاه بحجة أن الطب لا يعرف عن أمراضهم بعد سوى القليل القليل، وبالتالي سيكون خطر المعالجات الخاطئة كبير؟ وإذا جرى تقييم مثل هذه المعالجات وفقاً للصيغ الأخلاقية التي يُحكَم بها على الأخطاء الفنية الحقيقية، فمن غير الجائز إلقاء اللوم على الطبيب، إنْ هو ابتعد عن مثل هذه المعالجات، مفضِّلاً إحالة المرضى إلى تلك المتاهة المذكورة أعلاه، وحامياً نفسه من الإخفاقات المحتمَلة التي تعرِّضه لفقدان الاحترام الاجتماعي وتُدخِله في أزمة وجود وبقاء.

    لا شك في أن الطب نفسه ليس بريئاً تماماً من حالات سوء التفسير والتقييم الأخلاقي المبني عليه للمعالجات الطبية الخاطئة، ذلك أنه أحاط نفسه بسمعة رفيعة وعرف كيف يكتسب، في عصر نجاحاته الأولى، صورة العلم الكامل الذي لا يخطئ.

    من المؤكد أن هناك ثغرات في الطب المدرسي الحالي لا يُستهان بها، ولابد من السعي إلى سدّها. ولكن هل مواصلة البحث والأبحاث وفقاً للمنهج ذاته تؤدي بنا إلى هذا الغرض ؟ أم أن الأكثر احتمالاً هو وجود خطأ مبدئي منهجي ؟

    إن ما يميّز الطب عن العلوم الأخرى هو أن وراء مشاكله وأزماته يتوارى بؤس وشقاء ومعاناة الكثير من البشر. ومع ذلك لا يزال إلى اليوم يتّبع طريق البحث العلمي في تلك الأمراض فقط، التي يمكن شفاؤها أو معاوضتها بطرقه.

    كل ذلك أدى بالمرضى المعنيين إلى اختيار الإمكانية الثالثة لرد الفعل على هذا الوضع المأزقي والمتمثّلة في التفتيش عن حظّهم في “الطب الدخيل”، أو حتى خارج الحركة الطبية كلياً ـ لدى المتطبّبين.

    ولكن هل يمكن للأطباء الوقوف دون اكتراث إزاء هذا التطور؟ بالتأكيد لا. ولابد لهم من حسم أمرهم واتخاذ القرار: إما القبول بهجر مرضاهم لهم أو اللحاق بهم إلى طرق العلاج الأخرى ـ على الرغم من كل تحذيرات “العلماء”.

    إيجازاً يمكن القول إن العلاقة بين كل من المريض والطبيب والعلم الطبي علاقة مضطربة ومشوبة بعمق، ولابد من إعادة النظر وإجراء موازنة جديدة. وكي نستطيع الإجابة عن سؤالنا المطروح في البداية، لابد من العودة إلى المنهج الذي يتّبعه الطب في أبحاثه وفي تطوره وفي سعيه إلى القيام بواجبه في تقديم العون للمرضى وتحقيق صحة وسلامة الإنسان المرجوة.

    نعرف جميعاً أن منهج العلم يقوم على المنطق والتجربة (Experiment): المنطق بما يقتضيه من وضوح وعدم تناقض وقابلية البرهان، والتجربة التي تقود إلى نتائج قياس كمية قابلة للتكرار والتحليل، أي مستقلّة عن الشخص القائم بالتجربة (بيذاتية intersubjectiv)، مع إمكانية عزلها عن الترابطات الكلية للحقيقة، بغية تحريرها من التأثيرات الغريبة المشوِّشة.

    هل يمثّل هذا المنهج منهجاً مطلقاً يمكن تطبيقه على جميع مجالات المعرفة دون أية حدود؟

    لقد انتشرت طريقة “العلم الجديد” ـ كما أسماه “غاليليو غاليلي” ـ منذ القرن السابع عشر على نطاق واسع، وامتدّت لتشمل مناحي حياتنا كافة؛ ذلك أن الإغراء الكامن في التوصّل إلى نتائج باهرة وأكيدة كان إغراءً قوياً جداً. ولا شك في أنه تحقّق فعلاً: الطيران وغزو الفضاء وغيرها. ولم يُعترَف بأية حدود للمعرفة الفيزيائية سوى”الحدود التقنية” التي يمكن تحريكها ودفعها باستمرار من خلال تطور التوأمين: العلم الطبيعي والتقانة، وتفاعلهما المخصب. وصار الشعار ينص على ما يلي: “ما لا نستطيعه الآن، نستطيعه في المستقبل”. والحق يقال إن أحداً لا يعتقد أن من الحكمة الحديث عن حدود مطلقة للإمكانات التقنية. بيد أن الحدود التقنية لم تكن الحدود الوحيدة للمعرفة الفيزيائية إلاّ في مرحلة ما يُسمى بالفيزياء الكلاسيكية أو التقليدية. ذلك أن الفيزياء الحديثة للقرن العشرين وضعت حدّاً ثانياً للمعرفة الفيزيائية هو “الحدّ المنهجي”؛ فقد تبيّن في النظرية النسبية، وفيما بعد، وبشكل أوضح، في ميكانيك الكم، أن صورة العالم الميكانيكية استندت إلى مسلمات خاطئة تمثّلت في مسلمة الزمان المطلق والمكان المطلق وفي المسلمة القائلة إن العالم مستقل عن نظرتنا إليه ووعينا به ولا يتأثّر تعرّفنا إليه وتوصيفه بهما. بذلك سقط “لأول مرة” مبدأ عدم التناقض، ليتم إدراج حالة تناقض حرج قام على التوصيف الذري للمادة أو ما يُسمى ثنائية الموجة- الجسيم.

    أما الحدّ الثالث، الذي يدعونا إلى التوجّه إليه في هذا العصر عالم الفيزياء “بيتشمان” فيتمثّل في الحدود الوجودية للمعرفة الفيزيائية، وهي حدود تكتسب أهميتها عند تطبيق منهج العلم الطبيعي على مجالات أخرى كالطب.

    لا شك في أن منهج العلم الطبيعي يقود إلى معارف وقوانين أكيدة ومضمونة ويمكن الركون إليها بكل ثقة وأمان إلى درجة أن أحداً لن يخطر له، في حال سقوط طائرة ركاب مثلاً، أن يعزو السبب إلى عجز أو قصور في قانون “بيرنولي” في قوة الرفع؛ فالأسباب تعود دائماً إلى خطأ أو تقصير بشري. لا يمكن أن يتطرق الشك إلى القانون الطبيعي على الإطلاق. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن التوصّل إلى قوانين مطلقة وأبدية وذات ضمانة وصدقية كهذه في عالم تسوده التناقضات والمفاجآت ؟ يتمثّل المأخذ الكبير على منهج العلم الطبيعي في أنه يشطر الحقيقة إلى مجالين، صحيح أنهما مترابطان في عالمنا الخارجي بصورة لا تنفصم، إنما يتطلب منا تطبيق المنهج بشكل ناجح فصلهما في انعكاس العالم في وعينا.

    أما المجال الأول فيمكن توصيفه بمفهوم “التساؤلات حول مكان الوجود”، بينما يمكن توصيف المجال الثاني بمفهوم “التساؤلات حول معنى الوجود” (كانط). يقدِّم لنا العلم الطبيعي إجابات واضحة عن تساؤلات المجال الأول، من حيث أنها تساؤلات حول المادة في المكان والزمان (بما في ذلك الجسم البشري)، مع ضرورة استثناء التساؤلات المعنوية والجمالية والأخلاقية. بتعبير أدق نقول إن مجال العلم الطبيعي ينحصر في ما هو واضح وقابل للتكرار وإعادة الإنتاج وقابل للتحليل، بينما يقع كل ما تبقّى فيما وراء الحدود الوجودية.

    في حين أن المفهوم الوحيد الذي بقي مستثنى من الحدود الوجودية هو مفهوم “الله”، امتدّت هذه الحدود عبر سائر المفاهيم الأخرى في حياتنا وتفكيرنا، شاطرةً إياها إلى شطرين، أحدهما قابل للإدراك والقياس، والآخر يُستثنى من المنهج. ولتوضيح هذه النقطة شديدة الأهمية نأخذ المثالين التاليين: كلنا يعرف أن معايشة مفهوم “القمر” تتضمّن أكثر بكثير من معرفة موقعه في قبة السماء. ولكن معرفة موقعه كافية من أجل حساب الخسوف. هذا يعني أن أثر القمر في حياتنا الشعورية والعاطفية لا معنى له ولا أهمية في العلم الطبيعي. وإذا أخذنا مفهوم “الذكاء”، أمكننا قياسه وتوصيفه بالأرقام (روائز الذكاء)، ولكن من المشكوك فيه أن تقول هذه الأرقام شيئاً عما نسمّيه حكمةً وعقلاً. وهنا يتّضح لنا أن الأمر يبقى متروكاً لقرارنا الجماعي الحرّ فيما إذا كنا لا نزال نريد تطبيق منهج العلم الطبيعي ونرى فيه منهجاً سديداً وذا جدوى. وإلاّ فلابد لبعض الأفراد من الوقوف في وجه الجماعة والتدليل على هذه الحدود، ليصبح مثل هذا الإجماع ممكناً. علماً بأن صحة هذه الطريق لا تتأكّد إلاّ من خلال التطور التاريخي.

    إذا أردنا الآن تطبيق هذه الحدود الثلاثة لمعرفة العلم الطبيعي في مجال الطب، اتضح لنا فوراً أن الحدود المنهجية للمعرفة الفيزيائية لها أهمية أكاديمية في الغالب.

    وكما هو الحال في الفيزياء، نجد في الطب أيضاً تيارات لا تريد الإقرار إلاّ بالحدود التقنية لمنهج العالم الطبيعي، مدّعيةً أن المشاكل التي لم تتم السيطرة عليها حتى الآن يمكن السيطرة عليها بمرور الزمن، وذلك بالتقانة المحسَّنة باستمرار وبمزيد من الأجهزة والأدوات التي يزداد تطورها ودقتها وتعقيدها باطراد. وربما كان استئصال الجدري، على سبيل المثال، مثالاً حياً على هذه المقولة، حيث لابد هنا أيضاً من وضع التساؤلات المعنوية والأخلاقية، وربما الجمالية، ضمن قوسين.

    أما الحدود الوجودية للمعرفة الفيزيائية في الطب فهي حقيقة تاريخية، هذا يعني ضرورة وجود بعض الأفراد والجماعات، ممن يتمتّعون بنظرة جدية إلى مسؤوليتهم ويسلكون درباً يُفترَض أن يُعترَف به لاحقاً ويغدو حقيقة اجتماعية.

    نظراً لحجم المشكلة سنحاول تقديم دلائل محدّدة في بعض النقاط لاتجاهات التفكير الممكنة. قلنا إن ما يقع وراء الحدود الوجودية هو كل ما لا يمكن وصفه على نحو خال من التناقض ويتطلّب منا النظر إليه نظرة كلاّنية.هذا يعني، في الطب، أن كل مرض له سبب محدّد، ويقتضي وجود هذا السبب، يقع في مجال منهج العلم الطبيعي. ولا يخفى أن هذا الأمر يُطبَّق تعسّفياً في الكثير من الحالات. كما يقود هذا إلى وجوب كون المعالجة سببية وقابلة للتكرار، وبالتالي استبعاد كل ما لا يقع في نطاق الحدود الوجودية، ووضعه ضمن قوسين تحت المفهوم العام”الأثر الغفل” (Placebo).

    كي نكون أكثر دقةً، نعرض لطريقة تفكير ممكنة، في وسعها إدراك مفهوم المرض فيما وراء الحدود الوجودية، مع ضرورة الإشارة إلى سهولة وسرعة إساءة فهمها، والتأكيد على أن منهج العلم الطبيعي يتّسم بالدقة والضمان، وأن من يريد تجاوز الحدود الوجودية، عليه التنازل، عامداً، عن هذا الضمان.

    بينما يرى أسلوب التفكير المنطقي حالتي “سليم” و “مريض” حالتين مختلفتين ومتناقضتين وخاضعتين لمقولة “إما/أو”، يمكننا النظر إليهما بأسلوب التفكير الجدلي الكلاّني كحالتين متضافرتين وديناميتين تبعاً لمقولة “سواء/أم”. فالإنسان السليم هو سليم لأنه يشفي نفسه بنفسه باستمرار، أما الشخص المريض فلابد من توصيفه، عندئذ، عن طريق حالة تناقض: لأنه مريض لا يمكنه معالجة نفسه بنفسه. ويقودنا هذا، بالطبع، إلى موقف مبدئي مختلف إزاء المريض مفاده أن مهمة الطبيب لا تتمثّل في علاج المريض بل في مساعدته في علاج نفسه بنفسه. ويُعدّ أحد أهم أوجه المقارنة بين الموقف الأساس لكل من المعالجة الكيميائية (الدوائية) من جهة، والكثير من طرق الطب الطبيعي من جهة أخرى.

    قلنا إن الحدود الوجودية تشطر المفاهيم إلى مجالين مختلفين. من هذا المنطلق لا يمكن لطرق الطب المدرسي والطرق الأخرى أن تشكّل بدائل فيما بينها (الأمر الذي يتجسّد في المصطلح الخاطئ الذي نسمعه كثيراً في هذه الأيام وهو “الطب البديل”)، بل يجب عليهما أن يتكاملا. وهذا يعني مسؤولية عالية من قبل كل من الطبيب والمريض، من حيث وجوب اتخاذ القرار التالي في كل حالة: أية طريقة، وبالتالي أي أسلوب في التفكير يُفضَّل اتباعه؟ وسوف يكون هناك دائماً أخطاء يجب تحمّل مسؤوليتها من قبل الفرد. إننا نرى أن من واجبنا قبول الدعوة إلى الحرية، مما يعني في كل المجالات ـ أي في مجال الطب أيضاً ـ مسؤولية أكبر وضماناً أقل، ولكن حياة أكثر امتلاءً وزخماً.

    شكراً لكم

    #934958

    يسلمووو اخي علاء على هذا الطرح الطيب

    تحياتي

    #935729

    يسلمو علاءعلى الطرح
    بارك الله فيك

    #936857

    شكرا على المرور

مشاهدة 4 مشاركات - 1 إلى 4 (من مجموع 4)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد