مشاهدة 5 مشاركات - 1 إلى 5 (من مجموع 5)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #82750

    ديمتري أفييرينوس

    جاء في إحدى رسائل الحكماء أن العلم الحديث هو “خير حليف” للإنسان الحديث. فبأيِّ معنى يمكن أن يكون العلم كذلك؟

    يمكن للعلم أن يكون كذلك من أكثر من وجه: فإما لأن مكتشفات العلم الحديث باتت تحيل على صلب الأسئلة التي طرحتْها، وتطرحُها، علينا الحكمة القديمة؛ وإما لأن تعهُّد الحالة الذهنية التي يتطلَّبها إنتاج المعرفة العلمية – وقوامُها موقف موضوعي، غير متحيِّز، حرٌّ من الأفكار المسبقة – من شأنه تثوير بنيتنا الذهنية القائمة أساسًا على قبول المسلَّمات بدون هضمها ولا مناقشتها. لكننا هنا نتحفظ بعض الشيء على الرأي القائل بأن المعرفة اليوم تتمحور على العلم في أعمق فلسفته ورؤاه، لسبب أصيل هو عدم وجود رؤية واحدة للعلم ووظيفته يُجمِع عليها العلماء.

    لا ريب في أن غاية العلم، التي هي اكتشاف الحقيقة، وليست الاتكاء على المعتقدات أو المرجعيات السائدة، هي عينها غاية التواقين إلى المعرفة. لكنْ قلةٌ هم العلماء الذين مازالوا ينظرون إلى المسألة من هذه الزاوية. فالعلماء التقليديون، من ناحية، يزيحون جانبًا كلَّ معرفة غير متحصَّل عليها عن طريق العلم “الرسمي”؛ والمهتمون بإيجاد التطابقات بين الحكمة القديمة والعلم الحديث، من ناحية ثانية، يجدون في كلِّ عبارة يتفوَّه بها العلماء، ويبدو لهم أنها تؤكد معطيات الحكمة، برهانًا على صحة معتقداتهم، تقريبًا مثلما يفعل “الأصوليون” الذين يحاولون أن يستخلصوا من التوراة أو القرآن الشريف كلَّ نظريات العلم الحديث. لكن المعطيات الأساسية للحكمة القديمة مكتفية بذاتها، وصحتُها، أي إمكانية التحقق منها بالخبرة الروحية الفردية، ليست في حاجة قطعًا إلى مصادقة مكتشفات العلم.

    السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: هل ساهمت المكتشفات العلمية في تقدم الإنسانية حقًّا؟

    لا ريب أن عالم (الشمال) اليوم أكثر رفاهية إلى حدِّ الترهُّل، وأزخر بالمعارف وبالمعلومات إلى حدِّ التخمة؛ لكن المعاناة والصراعات باتت أوسع انتشارًا بكثير، وإساءة استعمال سلطة العلم أعمُّ من حسن استعمالها لمنفعة الإنسان (وهذا ليس انتقادًا للعلم قطعًا، لكنه تقرير لواقع). ومردُّ ذلك، ربما، إلى أن الأفكار المجردة، علمية أو غير علمية، يمكنها مبدئيًّا أن تُحدِث تغييرًا في محتوى الوعي الجمعي للإنسانية؛ لكنها إذا لبثت على صعيد الفكر وحده لن يكون التغيير جذريًّا ولا طويل الأمد. وحدها الأفكار التي تتأسَّس على منظور كلِّي – أي التي تُستمَدُّ من العقل (الملكة المعرفية التي تتخطى معطيات الفكر الخطابي discursive reason، الفردية بطبيعتها) – يمكنها أن تترك أثرًا، سواء في الفرد أو في المجتمع.

    بعض العلماء الأكابر بات يطرح اليوم وجود الوعي بوصفه “بطانة” كلِّ وجود ظاهر، ويجد في هذا الطرح حلاً ممكنًا لمسائل كثيرة ما تزال عالقة في العلم، من نحو الطريقة التي تتفاعل بها القسيمات ما تحت الذرية elementary particles وتتواصل فيما بينها، حتى عن بعد. فهل ثمة، فيما يتعدى كلَّ تصوراتنا عن العالم الفعلي، حقلٌ شاسع من الطاقة توجد فيه الأشياء كلُّها وجودًا كامنًا (“بالقوة”، على حدِّ اصطلاح أرسطو)؟ إن الأثر العجيب للراصد على الشيء المرصود، على حدِّ ما يقرِّر تفسير كوبنهاغن للميكانيكا الكوانتية، وظهور الموجة (الإلكترون مثلاً) في مظهرها الجسيمي بمجرَّد رصدها، وغيرهما من الظاهرات، يمكن تعليلها، ربما، بفرضية وجود حقل غير محدود من الطاقة هو من العالَم المرصود أساسُه وجوهرُه. وهذه الفكرة الأخيرة تتقاطع مع بعض معطيات الحكمة القديمة القائلة بأن “العالم العِلِّي” causal plane، على سبيل المثال، هو مستودع علل كلِّ أشكال الحياة المتجلِّية، بينما المعلولات تتجلَّى على صعيد آخر أكثف، أو أقل لطافة بالأصح.

    في كتاب حديث الصدور بعنوان الحقل يناقش المؤلِّف (وهو صحافي علمي متمكِّن) أفكار علماء مرموقين، يتجاهلها المجتمع العلمي في معظمها. وقد جاء في الكتاب أن بحر الطاقة المذكور أعلاه هو أساسًا “وسطٌ يحفظ كلَّ شيء، متيحًا له الوسيلة للتواصل مع كلِّ شيء آخر”. وبدون أن ندخل في التفاصيل يكفي أن نقول، مع مؤلِّف الكتاب، بأن الأمل معقود على “ثورة علمية مقبلة، تعلن نهاية الثنوية بكل المعاني […]، وتبرهن أن الوعي الجمعي الأعلى موجود”.

    وسواء كانت هذه الأفكار مقبولة في المجتمع العلمي بعامة أو لم تكن كذلك فإن المسألة الحاسمة هي معرفة أثرها علينا – نحن البشر – من الوجهة الأخلاقية. جميع الخبرات الروحية، على كرِّ التاريخ البشري، أصرَّت على ضرورة وجود أساس أخلاقي للمعرفة. فالطريقة التي نسلك بها، طبيعة العلاقات التي نقيمها، ليس بعضنا مع بعض وحسب بل ومع ممالك الطبيعة طرا، تتوقف على اختبارنا المباشر وعلى قناعتنا العميقة – ثمرة هذا الاختبار المباشرة – بالوحدة الجوهرية للوجود التي ليست مجرد تهويم نظري، بل حياة تنعكس في ممارسة “الأخوة” الشاملة، ليس بين البشر وحسب، بل ومع الطبيعة ككل.

    الأكيد، في هذا الصدد، أن الباحثين العلميين لم يبذلوا حتى الآن جهودًا جدية لتحديد الصلة بين الفضيلة، من ناحية، والمعرفة، من ناحية ثانية، في المجال العلمي. هناك مناهج معرفية تتناول فلسفة العلوم أو نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)، لكنْ ليس هناك، حتى الآن، فرع للفلسفة العلمية مستقل موسوم بـ”أخلاق العلم”.

    الكون، على ما يقول العلماء، مكوَّن، في كلِّ مكان منه، من المادة نفسها. وبالمثل، فمن المبرهَن عليه أن بنيان الـDNA هو هو في الأشكال العضوية كافة. والبحث في سلوك الحيوان، وبخاصة الرئيسات، يبين أنه ليس ثمة بينها وبين البشريات فارق بالحجم الذي كان يُظَنُّ سابقًا. لكن كلَّ اكتشاف جديد يقوم به العلم سرعان ما يُجيَّر، في أحسن الأحوال، لحساب إشادة منهجية بالفرادة والعبقرية البشريتين، بما يستدعي، في المقام الأول، نوعًا من الرضى الذاتي ويكرِّس العالِم نوعًا من “الخبير” الذي يصير مرجعية لكلِّ شيء. وهذا، بحدِّ ذاته، يطرح المسألة الأخلاقية من جديد: هل يحق لنا أن نستمر في معاملة المخلوقات الأخرى كما نفعل – نصطادها، نعذِّبها، نحبسها في أقفاص طوال حياتها، وهلم جرا – مادامت تشبهنا، وراثيًّا، وعاطفيًّا، وحتى ذهنيًّا؟!

    إن التجدد الروحي حاجة صارخة للإنسان. فمادام التقدم العلمي لا يساعد السلوك البشري على التغيير، بل، على العكس، يحضُّ على التنافس، والعنف، والمواقف المادية (ولا أقصد هنا تبنِّي النظرة المادية فلسفيًّا؛ فهناك ماديون كبار في مثلهم الأخلاقية)، فهو ليس قطعًا حليفًا في مشروع معرفي نهضوي شامل، أهم شروطه، على ما نرى، تجديد بنياننا الذهني والأخلاقي من الداخل. لن يكون العلم “حليفًا” للإنسان حقًّا إلا حين يبدأ بربط اكتشافاته إلى الحياة ككلٍّ واحد لا يتجزأ، إلى شقاء الكائنات الحية قاطبة أو سعادتها، على حدِّ ما أوصت به الحكمة القديمة.

    وفي الوقت نفسه، من الحمق أن ننكر قيمة الموقف العلمي الموضوعي في التربية العقلية التي هي من أسس البحث عن الحقيقة. ولنا أن نأمل صادقين في ألا يتشوف التكنوقراطيون إلى المزيد من المعرفة لمجرد اكتشاف مصدر لا ينضب للطاقة ييسِّر لهم إرسال المزيد من المركبات إلى الفضاء، أو تطوير السياحة الفضائية، أو استخدام الرؤية عن بعد للمزيد من التجسُّس على الآخرين، أو جعل القنابل “الذكية” أذكى! لنا أن نأمل أنهم سيجدون “مصلحة” أكبر في إلقاء نظرة إنسانية على المشكلات الأخلاقية والاجتماعية للمجتمع الحديث وفي توسيع نطاق أبحاثهم للدنوِّ من ثورة نفسية وأخلاقية. إذ ذاك فقط يمكننا الكلام على تكامل بين العلم والمعرفة.

    عندما يسود المنطق البارد والأفكار الأنانية وحدها ساحة الوعي، بما يستبعد كلَّ اعتبار أخلاقي، فإن هذا لا يساعد الإنسانية على النهوض، بل يسوِّغ انحطاطها. قرأنا مؤخرًا مقالاً حول “أخلاقية” وسائل الاتصال الحديثة، جاء فيه أن الكثير من الأطفال والمراهقين في أنحاء العالم يطَّلعون على البورنوغرافيا عبر الشاشة الصغيرة والإنترنت. ومُعِدُّو هذه البرامج وموزِّعوها يتنصلون من أية مسؤولية أخلاقية بمجرد إشارتهم إلى أن هذه البرامج والمواقع “مخصصة للراشدين”. لكن أطفال اليوم، الأمهر من أسلافهم في استعمال الكومبيوترات، يجدون لذة كبيرة في ابتكار الطرق لتجاهل هذا التحذير. فعندما يغيب الوالدان عن البيت، أو بعد أن يذهبا للنوم، يتعلم الأولاد كيف يتعاملون مع الكود الذي يُفترَض فيه أن يحول بينهم وبين الاطلاع على البرامج والمواقع الممنوعة ويشاهدونها بكلِّ سهولة. ويشير العدد المتزايد من اعتداءات الشباب على أقرانهم، وحالات الاغتصاب الجماعي، وغيرهما من أشكال العنف، إلى أن الشباب المشبعين بالجنس وبالبذاءات باتوا مجردين من أيِّ وازع أخلاقي. لقد بات هؤلاء عاجزين عن إدراك أن الجانب الأخلاقي من سلوكهم شأن مهم في نموِّهم النفسي السوِّي. وعندما يشاهدون على الشاشة مشاهد تعنيف وجنس فإنهم يجربونها بدورهم، تمامًا كما تجرب ربة بيت وصفة مطبخ تشاهدها على التلفزيون! فهذه الصور والأفكار المزروعة في رؤوسهم تشلُّ مشاعرهم السوية وإحساسهم بالقيمة وبالمعنى.

    كثيرًا ما شدَّد الحكماء على عبثية المعلومات الذهنية المقطوعة عن سياقها الإنساني بوصفها شكلاً من أشكال الجهل – اللهم إلا إذا تلازمتْ مع ما تسميه بعض مدارس البوذية بـ”البصيرة النافذة” أو الإدراك الحرِّ غير المشروط. إن وعي قدسية العلاقة مع الكائنات الحية الأخرى هو أسُّ الإدراك الحقيقي؛ بدونه تكون “المعرفة”، في أحسن الأحوال، رعناء، وفي أسوئها، خبيثة. والمشكلات التي يعاني منها مجتمع بشري غنيٌّ تكنولوجيًّا، لكنه فقير أخلاقيًّا، أكثر من أن تحصى.

    المعرفة الحقيقية هي ما يدعوه حكماء أسفار الأوبنشاد الهندية بـبارافديا paravidya، أي “المعرفة العليا” – المعرفة التي تنتج عن تحول داخلي يقود الفرد طوعًا في اتجاه المحبة الخالصة والأخوة الشاملة، المعرفة المنبجسة من وعي الحضور القدسي للحقيقة في قلب كلِّ مظهر من مظاهر الوجود والحياة. ووحده هذا الإدراك المجدِّد يساهم في إنشاء مؤسَّسات جديدة تجسِّد أخوة الإنسانية، الحقيقية، العملية، حيث تتضافر جهود الجميع في الاتجاه الذي رسمتْه الطبيعة من أجل خير الجنس البشري.

    *** *** ***

    #930482

    دائما تطرح ماهو قيم
    مشكور اخي على الموضوع
    يعطيك العافية
    تحياتي

    #930590

    شكرا زمن

    #931703
    loran99
    مشارك

    يسلمو دياتك

    #932337

    شكرا لوران

مشاهدة 5 مشاركات - 1 إلى 5 (من مجموع 5)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد