الرئيسية منتديات مجلس الثقافة الأدبية والشعر رواية جديدة لعبده خال

مشاهدة مشاركاتين - 1 إلى 2 (من مجموع 2)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #8013

    نقلا عن ايلاف الالكترونية

    فصل من الرواية

    يا ريم وادي ثقيف لطيف جسمك لطيف
    ما شفت أنا لك وصيف في الناس شكلك ظريف
    غناء طارق عبد الحكيم

    بعد أن خرجت من السجن كان لزاما عليّ أن استمع الى هذه الاغنية، فحين كنا ندس احزاننا بين ممرات الدهاليز الطويلة كان يصلنا صوته حارقا مترنما ملتاعا يردد مقاطعا منها.
    قيل انه ترنم بها في بداية غرامه
    وفي عنبر اخر سمعتها عبر صوت أبي حية فحين تطفأ الانوار ولا يعد في جواره سوى عشقه يصدح بتلك الاغنية بدندنة شجية يرف لها القلب، وتنبت في البال امرأة تحرق كل مراكب الصبر وتتركك تجدف باستغاثة متقطعة.
    وبعد أن استمعت لها نبتت في داخلي رغبتان: رغبة ان اجمع سيرتهما، ورغبة ان أسرد لكم سبب سجني، فبأي الرغبتين أبدأ؟!

    – يااااالله ألطف بها
    خرجت دعوته مجلجلة ومفتتحة صمتا وخيما سرى في اذهان الكثيرين، كان كل شخص يخمن، ينازعه سؤال ملح، يردده بينه وبين نفسه:
    – ماذا حدث لها؟
    كنا ندور حول بيتها كنحل يطوف بزهرة اختبأت وغم علينا مكانها، دوران محموم، لا أحد يحدث من يصادفه نلتقي كنمل ونتعرج بين تلك الازقة من غير ان يلتفت احدنا الى الاخر، كلنا يعرف سبب هذا الدوران وان كان كل منا يفتعل مبررا لدورانه.
    – يااااالله ألطف بها
    خرجت تلك الصرخة بعد يومين من غيابها وبعدها تشجرت الاحتمالات ووقف احتمال غامض مسرجا في البال يردده أهل الحي في السر والعلن:
    – شيء ما حدث لها
    وانفرط كثير من التوقعات:
    – مريضة
    – ضربت
    – ستتزوج
    – تابت
    أسباب كثيرة مضغناها في خواطرنا، وارتفعت أكفنا داعية بأن ينجيها الله من كل مكروه.
    ضق المكردس لغيابها فانفجر داعيا وأقسم ان يذبح خروفا لو أطلت، ولم يدع قسمه يجف اذ ركض وعاد يجر كبشا سمينا بينما ظلت شفرته مشهرة على نحر الكبش الذي أخذ يثغي محاولا التخلص من رقدته ومن الشفرة المسلولة في الهواء على عنقه وظل يثغي حتى تيبس صوته واستسلم لرقدته بلا مقاومة.
    في اليوم الثالث سال دمه ورفس بقوائمه في الهواء وانتفض جسده بارتعاشات متوالية سريعة واخيرا حمد فالتف بعض عابري السبيل منتظرين نصيبهم الا ان المكردس دفعهم عن نذره واعدا اياهم ان يذبح لهم كبشا آخرا، وبعد ان سلخه وقطعه قطعا صغيرة كرر قسمه ثلاثا ان لا يأكل احد من لحم هذا الخروف مؤكدا ان نذره سيبيت في امعاء القطط والكلاب كي تعرف ان هذه البقعة مباركة وان بها رزقا اذا انقطعت سبل الرزق.
    وسلك يوسف صاحب البقالة المواجهة لروشانها مسلكه اذ نحر كبشا أطعم منه عابري السبيل والمساكين وحينما عاب عليه كبار السن مسلكه لاقتفائه اثر شاب أحمق.. صمت بعض الوقت وحين تمادوا في لومه رد عليهم منفعلا:
    – والله لو انكم تعلمون بركتها على الباعة وعليكم لأخرج كل منكم عجلا بدلا من كبش هزيل لا يطعم البطون الجائعة في حيّنا.. يكفيها هذه البركة التي أحدثتها
    فصاح به المجلجل: استح على شيبتك، الرزق من عند الله
    فرد مرتبكا يغالبه خجل على انفعاله ودلق كل تلك الكلمات فترجرجت على شفتيه جمل قصيرة:
    – والأرزاق أسباب وهي سبب رزقي
    فاهتزت بعض الرؤوس موافقة فوجدها فرصة للتخلص من خجله بقسم آخر:
    – والله لو لم تظل لأذهبن الى الحرم داعيا لها ان يكشف الله ضرها.
    فاقتحمته بعض الأعين والألسن وعذره كثير من كانت عيونهم تتلصص في وجهها.
    ظل شباب الحارة ثلاث ليال يحومون حول بيتها لعلهم يلمحون تلك العينين التي أحالت حياتهم الى حلم لذيذ، وكلما مضى يوم زاد قلقهم، وبدأ كل واحد يفصح عن ضيقه، ولجأ بعضهم الى السؤال عنها خفية بداخل البيوت، كانت الأمهات يلوين شفاههن أو يقطبن حواجبهن حين يتلقين السؤال عنها، وبعضهن نهرن أبناءهن حازمات:
    – هذه البنت فاجرة لم تسأل عنها؟
    الوحيد الذي استطاع ان يرد على أمه العمياء بندر العديني فعندما سألها ردت باقتضاب وبسخرية لاذعة:
    – كلما أخرج للنزهة لا ألمحها في طريقي
    – ها أنتِ تعرفين الغمز فلماذا تصرين على أنك عمياء
    وافتعل ضحكة ليلطف بها مقولته المتوترة ولاطفها وبتودد ردد:
    – لماذا لا تذهبين للسؤال عنها؟
    نفرت غاضبة:
    – أسأل عن مثل هذه يا قليل الأدب
    ولكزته بيديه فابتعد صائحا:
    – عمياء في كل شيء
    فاندفعت صوبه حانقة، وسقطت على الأرض وصوتها يتبعه شاتما:
    – أنت مثل قنو الموز تنحني لتقتل أمك
    فخرج راكضاً لعله يلمح شعاع عينيها من خلال ثقوب الروشان.
    منذ أن دخلت الحارة لم يخسف ضوؤها يوما، فهي تطل بعينيها وتجعل الدنيا أكثر اتساعا في قلوب اولئك الشباب الذين تجري في أوردتهم الحياة بعمق وحبور حتى اولئك الذين مضى بهم العمر كانوا يشاركون الشباب اختلاس النظر وفي أحيان يتأوهون طالقين الحسرات بلا تحفظ.
    حين يسيل ضوء عينيها الجميلتين بذلك الشارع تفيق القامات وتشرئب الأعناق ويتنبه كل شخص لقيافته، وتشرق عينيها كشمس مراهقة تدفئ صدورنا ويجزم كل منها أنها اصطفته من دون الاخرين، كان مضنيا متابعة عينيها من ثقوب الروشان الضيقة، وفطنت لهذا فقامت بنفسها بكسر جزء من ذلك الروشان، وساعدها فيما بعد بقية الشباب على كسر ما تبقى منه لتظل نافذتها الوحيدة في الحي التي لا تستتر بروشانها، كانت اذا أطلت وحد الكثيرون لطلعتها وظلت عيونهم معلقة هناك حيث تقف كشمس لا تغيب.
    في أول يوم غابت فيه ظل الشباب وقوفا امام منزلها الى ان انتصف الليل، ولم يعودوا الا حين خرج الآباء والأمهات لدفعهم الى العودة.
    كنا اثنين كما كنا من أكثر المتواجدين حرقة، وشوقا لرؤية عينيها.
    في اليوم الثالث وقبل الغروب لمحوا شعرا منسكبا من تلك النافذة، وعينين تكحلتا بليل طويل دامس وانفلقت شفتاها عن ابتسامة جعلت الجميع يصلحون هندامهم، ومن شدة الفرح انطلقت زغاريد الشباب وفار دم الخرفان المنذورة.
    بينما تقافزت النساء من رواشينهن يستعلمن عن سبب تلك الزغاريد الملتهبة وحين علمن بلسبب تراجعن الى داخل بيوتهن وهن يلعنها وينعتنها بالفاجرة.
    أنا الوحيد الذي كنت أعلم بما حدث لها، وكنت أبحث عن وسيلة للوصول اليها، ومع كل محاولة اعود خائبا، لم يكن أحد يعلم سر غيبتها الا أنا وهي.
    حين أطلت منحت نظراتها للجميع وظللت أبحث عن عينيها، افتعلت كثيرا من الامور، نكت، خاصمت، تشاجرت، وعيناها مشرقة في وجوه الشباب ووجهي مظلم ينتظر قليلا من ضوء عينيها.
    وحين رأيتها معلقة بيد بندر عرفت أنني أحبها حقا.
    لقد سرقت عمري، وسرقت عمرها، مضى زمن طويل على هذا الجرح وهي تشعله بالغياب، ماذا فعل بها ذلك الغبي؟ الى أي أرض حملها؟
    لا أريد شيئا من هذه الدنيا أريد أن أراها مرة اخرى لا غير، اعتذر لها، ابكي اسفل قامتها كما كانت تفعل معي.
    الآن عرفت ان الحب صدع يشقق ويحيلك الى بيت خرب مهما حاولت ترميم تلك الشروخ، لا أريد شيئا حتى ابنتي لا أريدها.
    في كل البقاع وقفت سائلا وباحثا، ومع كل سؤال تبتعد بعيدا، أي غباء نمارسه؟ في أحيان كثيرة ننفر من نعيمنا ظانين انه الجحيم وحين نخرج منه نصرف عمرنا بحثا عنه.
    هل سأموت قبل ان أن أراها ثانية؟
    هل أنا محتاج أن أردد في كل لحظة:
    – لا أريد شيئا من هذه الدنيا أريد أن أراها مرة أخرى لا غير، اعتذر لها، أبكي أسفل قامتها كما كانت تفعل معي.
    ربما أردد تلك الجملة في كل حين علها تسمعني، أو بعبارة أدق يساورني ظن أن هناك من يسمعني وسيرفق بي حتما عندما يسمع ترديد هذه الأمنية التي تشبه الدعاء

    #354822

    * الفصل الأول من رواية الكاتب السعودي عبده خال “الأيام لا تخبئ أحداً” التي صدرت مؤخرا عن منشورات “الجمل” في ألمانيا. وخال من مواليد عام 1962 في منطقة جازان (السعودية)، درس العلوم السياسية في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، حيث يقيم ويعمل هناك كمشرف على الملحق الاسبوعي الثقافي بجريدة “عكاظ”. من مؤلفاته: “لا أحد” قصص (القاهرة 1992)، “ليس هناك ما يبهج” قصص (القاهرة 1993)، “الموت يمر من هنا” رواية (بيروت 1995)، “مدن تأكل العشب” رواية (الساقي لندن 1998)، “من يغني في هذا الليل” قصص (الدمام 1999).

مشاهدة مشاركاتين - 1 إلى 2 (من مجموع 2)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد