الرئيسية منتديات مجلس الثقافة العامة كتاب جميل وروعه … لكن لن يصبر عليه إلا من يهمه أمر الاسلام

مشاهدة مشاركاتين - 1 إلى 2 (من مجموع 2)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #74167

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتم النبيين المجتبى، محمد وآله وصحبه أئمة الهُدى، ومن بهم اقتدى فاهتدى.

    (أما بعد)

    فهذا بحث كتبته عن (الدِّين والسياسة) استجابة لما طلبته مني الأمانة العامة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، لأفتتح به الندوة التي سيعقدها المجلس في دورته السادسة عشرة في أوائل الشهر السابع تموز أو يوليو 2006م حول (الفقه السياسي للأقليات المسلمة في أوربا).

    وما كنت أحسب أن البحث سيطول معي إلى الحد الذي وصل إليه. ولكن هكذا كان، والخير فيما وقع.

    هذا وقد عرضته على إخواني في الندوة، ليصوِّبوني إذا أخطأت، ويردوني إلى الجادة إذا شردت، فليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم.

    ولقد نظرت في البحث بعد ذلك مستفيدا من الملاحظات التي أبديت، ومن غيرها، ومن تأملاتي الخاصة، في تطوير البحث، وإعادة ترتيبه وتقسيمه، وقد قسمت البحث- أو قل: الكتاب بعد المقدمة؛ إلى خمسة أبواب، وكل باب منها يشتمل على أكثر من فصل، إلا الباب الأخير، وهو ما يتعلق بالأقليات والسياسة، فهو فصل واحد.

    الباب الأول: ويتكون من فصلين. يتعلق بتحديد المفاهيم، عن الدين والسياسة لغة واصطلاحا، ومفهموم السياسة عند الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وعند المتكلمين والفلاسفة، ثم عند الغربيين.

    والباب الثاني: عن العلاقة بين الدين والسياسة بين الإسلامييين والعلمانيين، فالإسلاميون يرون ضرورة الارتباط بين الدين والسياسة، لأدلة شرعية وتاريخية لديهم، منها فكرة شمول الإسلام. والعلمانيون يرون ضرورة الفصل بينهما، ويرتبون على ذلك نتائج وأثارا مهمة، تضر في نظرهم بالمجتمع والأمة، وهو أطول الأبواب وأهمها. وفيه أصلنا الأحكام والمبادئ الشرعية، ورددنا على الشبهات التي يثيرها العلمانيون.

    والباب الثالث: عن العلاقة بين الدين والدولة، عند الإسلاميين والعلمانيين، ويتكون من ستة فصول.

    والباب الرابع: حول العلمانية: أهي الحل أم المشكلة؟ ناقشنا دعوى العلمانية الإسلامية المزعومة، وفي هذا الباب فصلان.

    والباب الخامس: الأقليات الإسلامية والسياسة. ويتكون هذا الباب من فصل واحد.

    هذا وقد أمسى منهجي واضحا لكل قرائي، والحمد لله، فلا ألقي القول على عواهنه، ولا أقلِّد أحدا فيما أرى من رأي، لا من أئمتنا الأقدمين، ولا ممَّن اتخذهم الناس أئمة في عصرنا من الغربيين الذين غزت حضارتهم العالم، ومنه عالمنا الإسلامي.

    ومنهجي هو الاعتماد على النص الصحيح في ثبوته الصريح في دلالته، وربطه بالواقع المعيش- الواقع الحقيقي لا المتوهم – دون افتعال أو اعتساف، معتمدا أسلوب الموازنة والترجيح بالأدلة، رابطا النصوص الجزئية بالمقاصد الكلية للإسلام وشريعته.

    ولم أعتمد فيما كتبت إلا على آية محكمة، أو حديث صحيح، أو دليل شرعي معتبر، أو منطق عقلي سليم، مسترشدًا بأقوال من يُعْتَد بهم من العلماء، ليشدوا أزري، حتى لا أقف وحدي، لا على أن أقوالهم في ذاتها حجة، فلا حجة في قول البشر إلا قول محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة، ومنحه العصمة، وهدى به الأمة.

    فإن كان ما كتبته صوابا، أو خيرا فمن الله وحده، إذ الفضل منه وإليه، وما كان من خطأ، أو شرود، أو قصور، أو تقصير، فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله منه، وأسأله تعالى أن يهديني إلى تصويب نفسي، ولا يحرمني أجر المجتهد المخطئ؛ إذا حرمت من أجري المجتهد المصيب. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

    {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].

    الدوحة في: ربيع الآخر 1427هـ – مايو (أيار) 2006م

    الفقير إلى عفو ربه

    يوسف القرضاوي

    الدِّين والسياسة ضوء على المفاهيم

    الباب الأول

    الدِّين والسياسة ضوء على المفاهيم

    تحديد المفاهيم أولا:

    قبل أن نتعرض لموقف الدِّين من السياسة أو موقف السياسة من الدِّين، والعلاقة بينهما هل هي -من الناحية النظرية- الترادف أو التباين أو التناقض؟ وهل هي -من الناحية العملية- التعارف أو التناكر؟ التقارب أو التباعد؟ التعاون أو التشاحن؟

    لا بُد لنا قبل ذلك: أن نحدد مفهوم كل من الدِّين، ومن السياسة، إذ الحُكْم على الشيء -كما يقول علماء المنطق- فرع عن تصوره.

    فما معنى كلمة (الدِّين) حين ننطق بها، ونستعملها في حياتنا أفرادًا وجماعات وأُمما؟

    وأيضا: ما معنى (السياسة) التي أصبحت تتحكم في مصايرنا[1]، وتقودنا طوعًا أو كرهًا إلى ما يريد فلاسفتها النظريون، ومنفذوها التطبيقيون، والقادة السياسيون؟

    ——————————————————————————–

    [1]- مصايرنا: جمع مصير، وبعض الناس ينطقونها: مصائرنا. وهو غلط شائع لدى الكثيرين. فالمادة أصلها يائي، فر تهمز في الجمع، كما قال تعالى: {وجعلنا لكم فيها معايش} [الأعراف:10]. ومثلها: مكايد ومصايد ومشايخ، ونحوها

    الفصل الأول

    مفهوم كلمة (الدِّين)

    إذا بحثنا عن مفهوم كلمة (الدِّين) في اللغة: وجدنا لها معاني كثيرة مختلفة، قد لا نخرج منها بطائل، وهو الذي جعل شيخنا العلاَّمة الدكتور محمد عبد الله دراز يعلن ضيقه بالمعاجم العربية التي لا تُعطي مفهوما حاسما في هذا الأمر وأمثاله.

    ولكن شيخنا وجد: أن المعاني الكثيرة تعود في نهاية الأمر إلى ثلاثـة معان تكاد تكون متلازمة، بل نجد أن التفاوت اليسير بين هذه المعاني الثلاثة مردُّه في الحقيقة إلى أن الكلمة التي يُراد شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات، أو بعبارة أدق: أنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب.

    بيانه: أن كلمة (الدِّين) تؤخذ تارة من فعل مُتعدٍ بنفسه: (دانه يدينه)، وتارة من فعل متعدٍ باللام: (دان له)، وتارة من فعل متعدٍ بالباء: (دان به)، وباختلاف الاشتقاق تختلف الصورة المعنوية التي تعطيها الصيغة.

    1. فإذا قلنا: (دانه دِينًا) عنينا بذلك أنه مَلَكَه، وحَكَمَه، وساسه، ودبره، وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه، وكافأه. فالدِّين في هذا الاستعمال يدور على معنى المُلك والتصرف بما هو من شأن الملوك؛ من السياسة والتدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة. ومن ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي يوم المحاسبة والجزاء. وفي الحديث: “الكَيِّسُ من دان نفسه”[1]، أي حَكَمَها وضَبَطَها. و(الديَّان) الحَكَم القاضي.

    2. وإذا قلنا: (دان له) أردنا أنه أطاعه، وخضع له. فالدِّين هنا هو الخضوع والطاعة، والعبادة والورع. وكلمة: (الدِّين لله) يصح أن منها كلا المعنيين: الحُكم لله، أو الخضوع لله.

    وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له. (دانه فدان له) أي قهره على الطاعة فخضع وأطاع.

    3. وإذا قلنا: (دان بالشيء) كان معنـاه أنه اتخذه دينا ومذهبـا، أي اعتـقده أو اعتاده أو تخلَّق به. فالدِّين على هذا هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء نظريًا أو عمليًا. فالمذهب العملي لكل امرئ هو عادته وسيرته؛ كما يقال: (هذا دِيني ودَيْدَني). والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه. ومن ذلك قولهم: (ديَّنت الرجل) أي وَكَلْتُه إلى دينه، ولم أعترض عليه فيما يراه سائغا في اعتقاده.

    ولا يخفى أن هذا الاستعمال الثالث تابع أيضًا للاستعمالين قبله، لأن العادة أو العقيدة التي يدان بها، لها من السلطان على صاحبها ما يجعله ينقاد لها، ويلتزم اتِّباعها.

    وجملة القول في هذه المعاني: اللغوية أن كلمة (الدِّين) عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يعظِّم أحدهما الآخر ويخضع له. فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادًا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرًا وسلطانًا، وحُكْمًا وإلزامًا، وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة، أو المظهر الذي يعبر عنها.

    ونستطيع أن نقول: إن المادة كلها تدور على معنى لزوم الانقياد، ففي الاستعمال الأول، الدِّين هو: إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني، هو: التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث، هو المبدأ الذي يُلتزم الانقياد له.

    وهكذا يظهر لنا جليًا أن هذه المادة بكل معانيها أصيلة في اللغة العربية، وأن ما ظنه بعض المستشرقين[2] من أنها دخيلة، مُعرَّبة عن العبرية أو الفارسية في كل استعمالاتها أو في أكثرها: بعيد كل البعد. ولعلها نزعة شعوبية تريد تجريد العرب من كل فضيلة، حتى فضيلة البيان التي هي أعز مفاخرهم!

    ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن الذي يعنينا من كل هذه الاستعمالات هو الاستعمالان الأخيران، وعلى الأخص الاستعمال الثالث. فكلمة الدِّين التي تستعمل في تاريخ الأديان لها معنيان لا غير. (أحدهما) هذه الحالة النفسيةetat subjectif التي نسميها التدين religiosite. (والآخر) تلك الحقيقة الخارجية fait odjectif التي يمكن الرجوع إليها في العادات الخارجية، أو الآثار الخارجية، أو الروايات المأثورة، ومعناها: جملة المبادئ التي تدين بها أمة من الأمم، اعتقادا أو عملا. doctrine religieuse وهذا المعنى أكثر وأغلب[3] اهـ.

    الدِّين اصطلاحا:

    على أن المعنى اللغوي لا يعطينا تمامًا: المفهوم الذي يعرفه الناس ويستخدمونه في أعرافهم ومصطلحاتهم، وقد عرّفه بعض العلماء الإسلاميين بتعريفات متقاربة.

    فقال ابن الكمال: الدِّين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عن الرسول.

    وقال غيره: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات[4].

    وقال أبو البقاء في (كلياته): الدِّين وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات، قلبيا كان أو قالبيا (أي معنويا أو مادِّيا) كالاعتقاد والعلم والصلاة.

    وقد يُتجوَّز فيه، فيطلق على الأصول خاصة، فيكون بمعنى المِلَّة، وعليه قوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام:161].

    وقد يُتجوَّز فيه أيضًا، فيطلق على الفروع خاصة، وعليه قوله تعالى: {الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5][5].

    وأشهر تعريف تناقله الإسلاميون عن الدِّين ما ذكره صاحب (كشاف اصطلاحات العلوم والفنون): أنه وضع إلهيٌ سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم، إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل[6].

    وقد لخصه شيخنا د. دراز بقوله: الدِّين وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات[7].

    وأحسب أن تلخيص شيخنا د. دراز ينقصه أن يتضمن (العبادات) مع (الاعتقادات) إلا أن تدخل في عموم السلوك، سواء كان مع الله، أم مع خَلقه.

    وقد نقل شيخنا دراز عن الغربيين تعريفات عن الدِّين، يلتقي معظمها في الأصل مع المفهوم الاصطلاحي للدين عند علماء المسلمين.

    ولا بأس أن نذكر هنا بعض هذه التعريفات.

    يقول سيسرون، في كتابه (عن القوانين): (الدِّين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله).

    ويقول في كتابه (الدِّين في حدود العقل): (الدِّين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية).

    ويقول شلاير ماخر، في (مقالات عن الديانة): (قوام حقيقة الدِّين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة).

    ويقول الأب شاتل، في كتاب (قانون الإنسانية): (الدِّين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق: واجبات الإنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه).

    ويقول روبرت سبنسر، في خاتمة كتاب (المبادئ الأولية): (الإيمان بقوة لا

    يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية، هو العنصر الرئيسي في الدِّين)[8].

    مفهوم كلمة (الدِّين) في القرآن:

    ومن تتبع كلمة (الدِّين) في القرآن الكريم، مُعَرَّفـة أو منكـرة، مجـردة أو مضافة: يجد لها معاني كثيرة يحددها السياق.

    فأحيانا يُراد بها الجزاء، مثل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4].

    وأحيانا يُراد بها: الطاعة، كما في قوله تعالى: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:164].

    وأحيانا يُراد به: أصول الدِّين وعقائده، كما في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13].

    فالذي شرع الله لأمة محمد من الدِّين: هو ما وصَّى به أولي العزم من الرسل: نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وهو: أن يقيموا الدِّين ولا يتفرقوا فيه.

    والدِّين هنا الذي جاءت به الرسل كلهم -كما قال الحافظ بن كثير- هو: عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وفي الحديث: “نحن -معشر الأنبياء- أولاد علات، ديننا واحد”[9]. أي القدر المشترك بينهم، هو: عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله جل جلاله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]. لهذا قال تعالى ههنا: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، أي وصَّى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف[10] اهـ.

    وقد يُراد بالدِّين إذا ذكر في القرآن: الإسلام خاصة، كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:83]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33، الفتح:28، الصف:9].

    كما قد يُراد به العقيدة التي يدين بها قوم من الأقوام، وإن كانت باطلة، كما في أمره تعالى لرسوله أن يقول للمشركين الكافرين: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].

    كلمة الدِّين لا تقتصر على الدِّين الحق:

    ومن هنا نتبين: أن إطلاق كلمة (الدِّين) لا تعني (الدِّين الحق) وحده، بل تعني: ما يدين به الناس ويعتقدونه، حقا كان أم باطلا.

    ولقد أنكرتُ ما ذكره أحد العلماء في مؤتمر حضره عدد كبير من المدعويين، كان الحديث فيه عن حوار الأديان، والتقريب بين أهلها … إلخ، وكان المؤتمر يدور حول هذه المعاني التي تحدث فيها المتحدثون والمشاركون. ولكن هذا العالم قام وقال بصراحة: لا يوجد هناك دين إلا دين واحد، وهو الإسلام، وهو الذي قال القرآن فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، حتى ما يُسَمَّى (الأديان الكتابية) لا يُعْتَد بها، ولا تُعْتبر دينا، بعد أن حرفها أهلها، وجاء الإسلام فنسخها.

    وقد ألزمني الواجب أن أرد على هذا الكلام الذي ينسف كل ما قيل في المؤتمر، بل جهود الحوار والتقارب بين الأديان والحضارات. وقلتُ فيما قلتُ:

    أن هذا الكلام يخالف صراحة ما جاء به القرآن، فالقرآن يعتبر أن هناك أديانا أخرى غير الإسلام، وإن كنا نعتبرها أديانا باطلة، ولكنها أديان يدين بها أصحابها.

    والآية التي استشهد بها المتحدث ترد عليه، وهي قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً …} الآية، فقد سماه الله دينا.

    وقال تعالى في شأن أهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ …} [النساء:171]، بل أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في شأن الوثنيين من المشركين أن يقول لهم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].

    وقال عز وجل في شأن الكافرين: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف:51].

    فالدِّين يشمل ما هو حق، مثل ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وما هو باطل، كالأديان التي جاء بنسخها والظهور عليها، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33، الفتح:28، الصف:9]، فما أرسل الله به محمدا هو (دين الحق) الذي وعد الله أن يظهره على (الدِّين كله) أي الأديان كلها، فهي أديان لم يعد لها أحقية بعد ظهور الإسلام. أي أنه أبطلها.

    الدِّين والإسلام:

    ومن الضروري هنا أن نقرِّر: أن مفهوم كلمة (الدِّين) ليس هو مفهوم كلمة (الإسلام) كما يتصور ذلك كثير من الكتاب المعاصرين.

    نعم يمكن أن يكونا شيئا واحدا، إذا أضفنا الدِّين إلى الإسلام أو إلى الله، فنقول (دين الإسلام) أو (دين الله) جاء بكذا أو كذا، أو هو الدِّين الذي بعث الله به خاتم رسله: محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل به آخر كتبه: القرآن الكريم.

    ولكن إذا ذكرت كلمة (دين) مجردة من الإضافة أو الوصف، فهي أضيق مفهوما من كلمة الإسلام، لأن (الدِّين) في الحقيقة إنما هو جزء من الإسلام.

    ومن هنا رأينا الأصوليين والفقهاء وعلماء المسلمين يُقَسِّمون المصالح التي جاءت شريعة الإسلام لتحقيقها في الحياة إلى: ضروريات وحاجيات وتحسينات. ويَحْصُرون الضروريات التي لا تقوم حياة الناس إلا بها في خمسة أشياء، وهي: الدِّين والنفس والنسل والعقل والمال. وأضاف بعضهم سادسة، وهي: العرض.

    فالشريعة الإسلامية من مقاصدها الأساسية: أن تُقِيم (الدِّين) وتحافظ عليه، لأنه سر الوجود، وجوهر الحياة، ومن أجله خَلق الله الناس، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56].

    بل أعلن القرآن أن الله لم يخلق هذا العالم عُلْويَّه وسُفْليَّه، بسمواته وأرضه، إلا ليعرفه خَلقه، فيؤدوا إليه حقه، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12].

    فالدِّين إذن هو ما يحدد العلاقة بين الله سبحانه وخَلقه من المكلَّفين، من حيث معرفته وتوحيده، والإيمان به إيمانا صحيحا بعيدا عن ضلالات الشرك، وأباطيل السحرة، وأوهام العوام. ومن حيث إفراده جل شأنه بالعبادة والاستعانة، فلا يُتوجه بالعبادة إلا إليه، ولا يستعان -خارج الأسباب المعتادة- إلا به سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].

    ومن هنا نرى كلمة (الإسلام) أوسع دائرة من كلمة (الدِّين). ولهذا نقول: الإسلام دين ودنيا، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة، خُلُق وقوة.

    ورأينا من أدعية نبينا صلى الله عليه وسلم: “اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي”[11].

    وهكذا رأينا: (الدِّين) يقابل بـ(الدنيا)، ورأينا الفقهاء يقولون عن بعض أعمال المكلَّفين: تجوز دينًا أو ديانة، ولا تجوز قضاء أو العكس.

    ورأينا الكلام عن (الدِّين والسياسة)، أو (الدِّين والدولة) في كلام كثير من العلماء على تنوع اختصاصهم.

    ——————————————————————————–

    [1]- رواه أحمد في المسند (17123) عن شداد بن أوس، وقال محققوه: إسناده ضعيف لضعف أبي بكر ابن أبي مريم، وباقي رجال الإسناد ثقات، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2459)، وقال: حديث حسن، وابن ماجه في الزهد (4260)، والحاكم في المستدرك كتاب التوبة (4/280)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

    [2]- انظر: دائرة معارف الإسلام المترجمة جـ9 صـ368، 369.

    [3]- انظر: الدين لشيخنا د. محمد عبد الله دراز صـ29- 32.

    [4]- انظر: الزبيدي في (تاج العروس) جـ9 صـ208 مادة (دين) طبعة دار صادر. بيروت.

    [5]- انظر: الكليات لأبي البقاء صـ433 طبعة مؤسسة الرسالة. بيروت.

    [6]- كشاف اصطلاحات العلوم والفنون للتهانوي صـ403.

    [7]- انظر: الدين للدكتور دراز صـ33 طبعة دار القلم. الكويت.

    [8]- انظر: الدين للدكتور دراز صـ34 وما بعدها.

    [9]- رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3442) عن أبي هريرة، ومسلم في الفضائل (2365)، وأحمد في المسند (9270)، وأبو داود في السنة (4675) بألفاظ مختلفة قريبة من هذا اللفظ.

    [10]- تفسير ابن كثير (4/109) طبعة عيسى الحلبي.

    [11]- رواه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2720) عن أبي هريرة.

    مفهوم كلمة السياسة لغة واصطلاحا

    الفصل الثاني

    مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا

    السياسة في اللغة: مصدر ساس يسوس سياسة.

    فيقال: ساس الدابة أو الفرس: إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي والترويض والتنظيف وغير ذلك.

    وأحسب أن هذا المعنى هو الأصل الذي أُخِذ منه سياسة البشر. فكأن الإنسان بعد أن تمرس في سياسة الدواب، ارتقى إلى سياسة الناس، وقيادتهم في تدبير أمورهم. ولذا قال شارح القاموس: ومن المجاز: سُسْتُ الرعية سياسة: أمرتهم ونهيتهم. وساس الأمر سياسة: قام به. والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه[1].

    وتعرِّفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت -نقلا عن معجم (روبير)- بأنها: (فن إدارة المجتمعات الإنسانية).

    وحسب معجم (كامل): (تتعلَّق السياسة بالحكم والإدارة في المجتمع المدني).

    وتبعا لمعجم العلوم الاجتماعية: تشير السياسة إلى: (أفعال البشر التي تتَّصل بنشوب الصراع أو حسمه حول الصالح العام، والذي يتضمن دائما: استخدام القوة، أو النضال في سبيلها).

    ويذهب المعجم القانوني إلى تعريف السياسة أنها: (أصول أو فن إدارة الشؤون العامة)[2].

    كلمة (السياسة) في تراثنا الإسلامي

    إذا عرفنا مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا، فينبغي أن نبحث عنها في تراثنا الإسلامي، وفي فقهنا وفكرنا الإسلامي، وفي مصادرنا الإسلامية.

    هل نجدها في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وفي فقه المذاهب المتبوعة، أو غيره من الفقه الحر؟ وهل نجدها عند غير الفقهاء من المتكلمين والمتصوفة والحكماء والفلاسفة؟

    وكيف تحدث هؤلاء وأولئك عن السياسة؟ وما الموقف الشرعي المستمد من الكتاب والسنة من هذا كله؟

    كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن:

    كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكيِّه، ولا في مدنيِّه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعلا. ومن قرأ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) يتبين له هذا. ولهذا لم يذكرها الراغب في (مفرداته). ولا (معجم ألفاظ القرآن) الذي أصدره مجمع اللغة العربية.

    وقد يتخذ بعضهم من هذا دليلا على أن القرآن -أو الإسلام- لا يعني بالسياسة ولا يلتفت إليها.

    ولا ريب أن هذا القول ضَرْب من المغالطة، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه مبثوث في القرآن.

    أضرب مثلا لذلك بكلمة (العقيدة) فهي لا توجد في القرآن، ومع هذا مضمون العقيدة موجود في القرآن كله، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل العقيدة هي المحور الأول الذي تدور عليه آيات القرآن الكريم.

    ومثل ذلك كلمة (الفضيلة) فهي لا توجد في القرآن، ولكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالحثِّ على الفضيلة، واجتناب الرذيلة.

    فالقرآن وإن لم يجئ بلفظ (السياسة) جاء بما يدل عليها، وينبئ عنها، مثل كلمة (المُلك) الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم.

    جاء ذلك في القرآن بصيغ وأساليب شتَّى، بعضها مدح، وبعضها ذم. فهناك المُلك العادل، وهناك المُلك الظالم، المُلك الشُورِي، والمُلك المستبد.

    ذكر القرآن في المُلك الممدوح: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:54].

    وذكر من آل إبراهيم: يوسف الذي ناجى ربه فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف:101]، وإنما قال من المُلك، لأنه لم يكن مستقلا بالحكم، بل كان فوقه مَلِك، هو الذي قال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].

    وممَّن آتاهم الله المُلك: طالوت، الذي بعثه الله مَلِكا لبني إسرائيل، ليقاتلوا تحت لوائه، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:247].

    وذكر القرآن من قصته مع جالوت التي أنهاها القرآن بقوله: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251].

    وكذلك سليمان الذي آتاه الله مُلْكا لا ينبغي لأحد من بعده.

    وممَّن ذكره القرآن من الملوك: ذو القرنين الذي مكَّنه الله في الأرض وآتاه الله من كل شيء سببا، واتسع مُلكه من المغرب إلى المشرق، وذكر الله تعالى قصته في سورة الكهف، مثنيا عليه.

    وممَّن ذكره القرآن: مَلِكة سبأ التي قام مُلْكها على الشورى لا على الاستبداد {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32].

    وفي مقابل هذا ذم القرآن المُلك الظالم والمتجبر، المسلط على خَلق الله، مثل: مُلك النمروذ، الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلك.

    ومثل: مُلك فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شِيَعًا، يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين.

    وبعض الملوك لم يمدحهم القرآن ولم يذمهم، مثل مَلِك مصر في عهد يوسف، وهو الذي ولَّى يوسف على خزائن الأرض. وإن كان في حديث القرآن عن بعض تصرفاته ما ينبني عن حسن سياسته في مُلكه.

    فهذا كله حديث عن السياسة والسياسيين تحت كلمة غير (السياسة).

    ومثل ذلك: كلمة (التمكين) كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}(يوسف: 56)، وقوله عن بني إسرائيل{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(القصص:5)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }(الحج:41).

    ومثل ذلك: كلمة (الاستخلاف)، وما يشتق منها، مثل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55). وقوله تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (لأعراف:129).

    ومثل كلمة (الحُكْم) ومايشتق منها، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء:58) وهي الآية التي أدار عليها ابن تيمية نصف كتابه السياسة الشرعية. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (المائدة:49)، وقوله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي آية:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وفي آية ثالثة:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].

    ما ورد عن السياسة في السنة:

    على أن السنة النبوية قد وجدت فيها حديثا تضمَّن ما اشتقَّ من السياسة، وهو الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون”. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: “فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم”[3].

    أول استخدام لكلمة سياسة في معنى الولاية والحكم في تراثنا:

    وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في مادة (سياسة)[4] قولها: لعل أقدم نص وردت فيه كلمة (السياسة) بالمعنى المتعلِّق بالحكم هو: قول عمرو ابن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية: إني وجدته ولي عثمانَ الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير[5].

    وهذا مقبول إن كان المقصود كلمة (السياسة) مصدرا. أما المادة نفسها باعتبارها فعلا، فقد وردت كما ذكرناه في الحديث السابق المتفق عليه عن أبي هريرة، وكما وردت بعد ذلك منذ عهد سيدنا عمر رضي الله عنه، بوصفها فعلا مضارعا.

    روى ابن أبي شيبة في مصنفه، والحاكم في مستدركه، عن المستظل ابن حصين، قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قد علمتُ -ورب الكعبة- متى تهلك العرب! فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول[6].

    وكذلك رويت نفس الصيغة (صيغة الفعل المضارع) عن سيدنا علي رضي الله عنه. روى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن الجعد في مسنده: قال علي: يا أهل الكوفة! والله لَتَجِدُّنَّ في أمر الله، ولتُقاتِلُنَّ على طاعة الله، أو ليَسُوسَنَّكم أقوام أنتم أقرب إلى الحق منهم، فليعذبنكم ثم ليعذبنهم[7].

    ——————————————————————————–

    [1]- انظر: مادة (سوس) في تاج العروس (4/169) طبعة دار صادر. بيروت.

    [2]- انظر: موسوعة العلوم السياسية. إصدار جامعة الكويت صـ102 فقرة (78).

    [3]- رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3455) عن أبي هريرة، ومسلم في الإمارة (1842)، وأحمد في المسند (7960)، وابن ماجه في الجهاد (2871).

    [4]- الموسوعة الفقهية الكويتية (25/295، 296).

    [5]- تاريخ الطبري (5/68) طبعة دار المعارف. القاهرة.

    [6]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفضائل (6/410) عن المستظل بن حصين، والحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم (4/475)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشعب (6/69).

    [7]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفتن (7/504) عن المستظل بن حصين، ووقع في المصنف (ليسوا منكم) وهو تصحيف، وابن الجعد في مسنده (1/327) بتحقيق عامر أحمد حيدر. وابن الجعد هو علي ابن الجعد بن عبيد، أبو الحسن الجوهري البغدادي.

    فلسطين تحت الحصار

    كتب

    خطب ومحاضرات

    برامج ولقاءات

    مقالات

    ندوات ومؤتمرات

    أخبار القرضاوي

    فتاوى وأحكام

    شعر وأدب

    في رمضان

    أخبار الموقع

    حول القرضاوي

    وثائق وبيانات

    للإعلان في الموقع

    ساهم في تطوير الموقع

    مواعيد البرامج التلفزيونية

    اربط موقعك بصفحات القرضاوي

    مركز المساعدة

    اتصل بنا

    منتديات النقاش

    تصويت

    Powered by

    السياسة عند الفقهاء

    السياسة عند الفقهاء

    وتحدث فقهاء المذاهب المختلفة في كتبهم عن السياسة، بمناسبات شتَّى، وخصوصا عند حديثهم عن التعزير: وهو العقوبة غير المقدرة بالنص.

    السياسة عند المالكية والشافعية:

    وكان منهم المُوَسِّع في السياسة، والمُضَيِّق فيها، ويبدو أن الشافعية كانوا هم المضيقين في هذا الجانب، أكثر من غيرهم، لأنهم لا يقولون بالمصالح المرسلة. وإن كان الإمام شهاب الدِّين القرافي المالكي (ت684هـ) يذكر في كتابه (تنقيح الفصول): أن كل فقهاء المذاهب قالوا بالمصالح. يقول رحمه الله:

    (وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرَّقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرَّقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب)[1].

    وهذا هو التحقيق، فالذي يطالع كتب المذاهب الأخرى يجد فيها عشرات ومئات من المسائل إنما يعللونها بتعليلات مصلحية، وإن كان الحنفية والحنابلة أكثر من الشافعية في ذلك.

    ويذكر القرافي: أن إمام الحرمين -عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت478هـ)- قرَّر في كتابه المسمى بـ(الغياثي) أمورا وجوَّزها وأفتى بها -والمالكية بعيدون عنها- وجسر عليها، وقالها للمصلحة المطلقة[2]، وكذلك الغزالي في (شفاء الغليل) مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا -يعني المالكية- في المصلحة المرسلة[3].

    وإمام الحرمين والغزالي شافعيان. ولكن المعروف أن الغزالي في (المستصفى) يعتبر المصلحة من (الأصول الموهومة)، وأن شيخه إمام الحرمين يضيق في السياسة الشرعية، ولا يجيز أي زيادة على المنصوص عليه في العقوبات.

    تضييق إمام الحرمين في السياسة:

    وقد نقل الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب -في تحقيقه لكتاب (الغياثي) لإمام الحرمين والتقديم له، وكتابة دراسة قَيِّمة عنه- ما يوضح موقف الإمام رحمه الله، من قضية التوسع في التعزيرات، كما أجازه آخرون باسم السياسة للردع والزجر. وكان مما نقله عنه قوله: (ومما يتعين الاعتناء به الآن، وهو مقصود الفصل: أن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا تَسْتَدُّ (من السداد) إلا على رأي مالك رضي الله عنه، وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات، ويسوغ للوالي أن يقتل في التعزير.

    ونقل النقلة عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها[4]!

    وذهب بعض الجهلة عن غِرة وغباوة: أن ما جرى في صدر الاسلام من التخفيفات، كان سببها أنهم كانوا على قرب عهد بصفوة الإسلام، وكان يكفي في ردعهم التنبيه اليسير، والمقدار القريب من التعزير، وأما الآن، فقد قست القلوب، وبعدت العهود، ووهنت العقود، وصار متشبث عامة الخَلق الرغبات والرهبات، فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات، لما استمرت السياسات)[5].

    ويرد ذلك الرأي بعنف، ويدفعه بقوة، قائلا: (وهذا الفن قد يستهين به الأغبياء، وهو على الحقيقة تسببٌ إلى مضادة ما ابتُعِث به سيد الأنبياء)[6].

    ويستمر في تسفيه هذا الرأي قائلا: (وعلى الجملة من ظنَّ أن الشريعة تُتلقى من استصلاح العقلاء، ومقتضى رأي الحكماء، فقد رد الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة)[7].

    ويعود لتأكيد نفس المعنى، فيقول: (وهذه الفنون في رجم الظنون، ولو تسلطت على قواعد الدِّين، لاتخذ كل مَن يرجع إلى مُسكة من عقل فكره شرعا، ولانتحاه ردعًا ومنعًا، فتنتهض هواجس النفوس حالَّة محل الوحي إلى الرسل، ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ فلا يبقى للشرع مستقر وثبات)[8].

    ثم يبين السر في هذا الداء، فيقول: (هيهات هيهات. ثقل الاتِّباع على بعض بني الدهر؛ فرام أن يجعل عقله المعقول عن مدارك الرشاد في دين الله أساسا، ولاستصوابه راسا، حتى ينفض مِذرَويه، ويلتفت في عطفيه اختيالاً وشماسًا. فإذا لا مزيد على ما ذكرناه في مبالغ التعزير)[9].

    ثم يصرح بتفشي هذا الداء -مجاوزة الحد في العقوبات- في زمانه، ويجأر بالشكوى، وكأنه يعتذر عن إطالته في هذا الموضوع، فيقول: (وإنما أرخيت في هذا الفصل فضل زمامي، وجاوزت حد الاقتصاد في كلامي، لأني تخيلت انبثاث هذا الداء العضال في صدور الرجال)[10].

    ويرى أن أصحاب السياسات لم يحيطوا فَهما بمحاسن الشريعة، ولذا يزعمون أن التعزير المحطوط عن الحدود لا يزع ولا يدفع، وأن هذا منهم جهل وسوء قصد. قال:

    (والذي يبديه أصحاب السياسات أن التعزير المحطوط عن الحد لا يزع ولا يدفع، وغايتهم أن يزيدوا على مواقف الشريعة، ويتعدّوها ليتوصلوا بزعمهم إلى أغراض رأوها في الإيالة … وإنما ينسل عن ضبط الشرع، من لم يحط بمحاسنه، ولم يطلع على خفاياه ومكامنه، فلا يسبق إلى مكرمة سابق إلا ولو بحث عن الشريعة، لألفاها أو خيرًا منها في وضع الشرع … فهذا مسلك السداد، ومنهج الرشاد والاقتصاد، وما عداه سرف ومجاوزة حد، وغلوٌّ وعتوٌّ)[11].

    ولا يفوته في هذا المقام أن يقف في وجه رجال الأمن الذين (يرون ردع أصحاب التهم، قبل إلمامهم بالهنات والسيئات)، ويقول: (إن الشرع لا يرخص في ذلك)[12].

    هذا هو رأي إمام الحرمين، في تشديده وتضييقه، وإن كان يخالف ما ذكره القرافي! وهو هنا يمثل فقه الشافعية، وكيف لا، وهو الذي تشير إليه كتب المذهب بـ(الإمام) فإذا قالوا: قال الإمام، فليس غير إمام الحرمين.

    وأما مذهب مالك، فقد نقل ابن فرحون في (تبصرة الحكام) عن القرافي قوله: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع، بل تشهد له الأدلة، وتشهد له القواعد. ومن أهمها كثرة الفساد وانتشاره، والمصلحة المرسلة التي قال بها مالك وجمع من العلماء[13].

    ولا ريب أنَّ أخذ الإمام مالك بالمصلحة المرسلة، واشتهاره بها، وتوسُّعه فيها أكثر من غيره، يجعل له رخصة في مساحة أرحب في التفكير السياسي، والتصرف السياسي، للأئمة والأمراء.

    ولهذا نجد الإمام القرافي في كتابه (تنقيح الفصول) حين استدل على شرعية المصلحة المرسلة، اتخذ أمثلته وشواهده، من تصرفات الصحابة، ولا سيما الخلفاء الراشدين، وأنهم عملوا أمورا لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة أبي بكر للمصحف، ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى (بين ستة)، وتدوين الداواوين، وعمل السِّكة (النقود)، واتخاذ السجن، فعل ذلك عمر رضي الله عنه، وهدّ الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، فعله عثمان رضي الله عنه[14].

    وأيضا ما فعله عمر من اتخاذ تاريخ خاص للمسلمين، إلى سائر (أَوَّلياته) التي عُرف بها. ومثله جمع عثمان الناس على مصحف واحد، وإحراق ما عداه، وتضمين علي للصناع المحترفين، ما بأيديهم من أموال الناس، حتى يثبتوا أنها هلكت بغير إهمال ولا تعدٍّ منهم … إلخ.

    فهذه كلها من أعمال السياسة الشرعية للإمام أو الحاكم قام بها لمقتضى المصلحة للجماعة أو للأمة.

    كل ما هو مطلوب هنا: ألا نصادم نصا مُحْكما من نصوص الشرع، ولا قاعدة مقطوعا بها من قواعده.

    وربما كان أوسع المذاهب في ذلك مذهب الحنابلة، كما سنرى فيما ذكره الإمام ابن عقيل، وعلَّق عليه الإمام ابن القيم.

    السياسة في الفقه الحنفي:

    وقد تكلم علماء المذهب الحنفي عن السياسة -أكثر ما تكلموا- عند حديثهم عن حد الزنى، وما ورد فيه من حديث نفي الزاني غير المحصن وتغريبه سنة عن بلده الذي حدثت فيه جريمة الزنى، فقد فسروا هذا التغريب: بأنه نوع من (السياسة) أو التعزير. فلا مانع أن يفعله الإمام أو القاضي النائب عنه للردع والتأديب إذا رأى في ذلك مصلحة، ولم يخشَ من ورائه فتنة. فهو من (السياسة الشرعية) المبرَّرة والمبنية على قواعد الشرع.

    وهنا تعرض علماء المذهب بهذه المناسبة للكلام عن السياسة. وقد استوفى ذلك علاّمة المتأخرين ابن عابدين في حاشيته الشهيرة، (رد المحتار على الدر المختار) ونقل فيها عن القُهستانيّ قوله: (السياسة لا تختص بالزنى، بل تجوز في كل جناية، والرأي فيها إلى الإمام -على ما في (الكافي)- كقَتْل مبتدع يُتَوَهَم منه انتشار بدعته وإن لم يُحكم بكفره، كما في (التمهيد)، وهي مصدر: ساس الوالي الرعية: أَمرَهم ونهاهم، كما في (القاموس) وغيره، فالسياسة استصلاح الخَلق بإرشادهم إلى الطريق المُنَجِّي في الدنيا والآخرة، فهي من الأنبياء على الخاصة والعامة في ظاهرهم وباطنهم، ومن السلاطين والملوك على كل منهم في ظاهره لا غير، ومن العلماء ورثة الأنبياء على الخاصة في باطنهم لا غير، كما في (المفردات)[15] وغيرها) اهـ، ومثله في (الدر المنتقى)[16].

    قلتُ: (ابن عابدين) وهذا تعريف للسياسة العامة الصادقة على جميع ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام الشرعية، وتستعمل أخص من ذلك مما فيه زجر وتأديب ولو بالقتل، كما قالوا في اللوطي والسارق والخنَّاق: إذا تكرر منهم ذلك حلَّ قتلهم سياسة، وكما مر في المبتدع، ولذا عرَّفها بعضهم: بأنها تغليظ جناية لها حكم شرعي حسما لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه: أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم يُنَصَّ عليها بخصوصها، فإن مدار الشريعة بعد قواعد الإيمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم. ولذا قال في (البحر)[17]: (وظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يَرِد بذلك الفعل دليل جزئي) اهـ وفي (حاشية مسكين) عن (الحموي): (السياسة شرع مُغَلَّظ، وهي نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تُخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيرا من المظالم. وتردع أهل الفساد، وتُوصِل إلى المقاصد الشرعية، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع، فمن أراد تفصيلها فعليه بمراجعة كتاب (مُعين الحكام) للقاضي (علاء الدِّين الأسود الطرابلسي الحنفي)) اهـ.

    قلتُ: (ابن عابدين) (والظاهر أن السياسة والتَّعزير مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير، كما وقع في (الهداية) و(الزيلعي) وغيرهما، بل اقتصر في (الجوهرة) على تسميته تعزيرا، وسيأتي أن التعزير تأديب دون الحد، من العَزْر بمعنى الرَّد والردع، وأنه يكون بالضرب وغيره، ولا يلزم أن يكون بمقابلة معصية، ولذا يضرب ابن عشر سنين على الصلاة، وكذلك السياسة كما مر في نفي (عمر) لـ (نصر بن حجاج)، فإنه ورد أنه قال لـ (عمر): ما ذنبي يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا ذنب لك، وإنما الذنب لي؛ حيث لا أطهر دار الهجرة منك[18]. فقد نفاه؛ لافتتان النساء به، وإن لم يكن بصنعه، فهو فِعلٌ لمصلحة، وهي قطع الافتتان بسببه في دار الهجرة التي هي من أشرف البقاع، ففيه رَد وردع عن منكر واجب الإزالة! وقالوا: إن التعزير موكول إلى رأي الإمام.

    فقد ظهر لك بهذا أن باب التعزير هو المتكفل لأحكام السياسة، وسيأتي بيانه، وبه عُلِم أن فعل السياسة يكون من القاضي أيضا، والتعبير بالإمام ليس للاحتراز عن القاضي، بل لكونه هو الأصل والقاضي نائب عنه في تنفيذ الأحكام)[19].

    ويبدو من كلام فقهاء الحنفية: أن السياسة تتعلَّق بجانب العقوبات والتأديب لا تتعداه. ولذا قالوا: إن السياسة والتعزير مترادفان.

    والذي أرجحه: أن السياسة أعم من التعزير، فهي تدخل في أكثر من مجال في شؤون العادات والمعاملات: من الإدارة والاقتصاد والسلم والحرب والعلاقات الاجتماعية والدستورية والدولية وغيرها.

    وسنرى أن تعريف الإمام ابن عقيل للسياسة أوسع وأوفى مما ذكره من ذكره من علماء الحنفية وغيرهم. فقد عرف السياسة بأنها: كل تصرف من ولي الأمر يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يأت به الشرع، بشرط ألا يخالف ما جاء به الشرع. وهو ما سنبحث عنه في ما يلي.

    دور ابن القيم في توضيح السياسة الشرعية:

    والحق أني لم أجد من الفقهاء في تاريخنا، من تكلم عن السياسة الشرعية وشرحها فأحسن شرحها، وكَشَف اللثام عن مفهومها، وبين الفرق بين السياسة العادلة، والسياسة الظالمة، وأن الأولى إنما هي جزء من الشريعة، وليست خارجة عنها، ولا قسيما لها، مثل الإمام ابن القيم (ت751هـ) رحمه الله، في كتابين من كتبه: (إعلام الموقعين) و(الطُّرق الحُكمية). ويحسن بنا أن ننقل كلامه هنا لما فيه من قوة الحجة، ونصاعة البيان، المؤيد بالبرهان.

    #835873
    جيبت
    مشارك

    مشكور على الموضوع

    تحياتي الأخويه

مشاهدة مشاركاتين - 1 إلى 2 (من مجموع 2)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد