الرئيسية منتديات مجلس عـالـم حــواء رجال وكأنهم ملائكة..لا نعرف قيمتهم الا بعد فراقهم

مشاهدة مشاركة واحدة (من مجموع 1)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #66429

    تحتاج الطرقات إلى مصابيح إنارة ..وتحتاج الأمم إلى أبطال قوميين ..ونحتاج نحن – الأفراد العاديون – إلى مثل أعلى ينير لنا الدرب ويشحذ الهمم ويجعلنا نؤمن أن الحياة ليست مجرد بالوعة قاذورات تزحف فيها الحشرات في دبيب صامت..حشرات بشرية تطيع غرائزها البدائية فتنهب وتفسد وتسرق ..

    أقولها بصراحة : زهقت من قراءة صحف المعارضة من كثرة ما يتسرب إلى من روائح محزنة.

    ولوهلة قررت أن أفر من هذه العتمة ..أسترجع ذكرى بطل ..بطل عادي تماما كان يحيا بيننا دون أن نشعر به؟ ..رجل يؤدي واجبه في الحياة على قدر الاستطاعة ..يؤديه في أسرته وفي عمله وبين أقاربه ..المعدن الأصيل للشعب المصري الذي لم ينفرط عقده -بفضل هؤلاء وحدهم – رغم هجمة الفساد المنظمة ؟ … قلت في نفسي كم يوجد بيننا في تلك اللحظة من رجل شريف يعاني من الفاسدين دون أن يفكر أحدنا في إنصافه؟ .. حتى إذا مات قلنا خسارة ، رجل لن يعوض، ورحنا نلوم أنفسنا وننصره في خيالنا بعد أن لم يعد لنصرتنا أي قيمة .

    قبل المعركة

    وبشكل ما تذكرت هذا النموذج الإنساني الجميل لرجل شاءت الظروف أن أقترب منه فقلت لنفسي لماذا لا أطلع الآخرين على سيرته العطرة بدلا من كل هذا القبح الذي يحاصرنا ؟ . لا يهم من هو . لا يهم اسمه فقد كان – وهو حي يرزق – أزهد الناس في الثناء فما بالك ود ودع دنيانا التي لم تنصفه ؟ تعالوا أحكي لكم بطولة رجل عادي .

    كانت طفولته عادية جدا ..مجرد طفل شقي يفيض بالحيوية ..يطارد القطط والسيارات ويتسلق الأشجار ويهشم النوافذ ولكن أحدا لا يطاوعه قلبه على معاقبة الطفل الجميل جدا ذي الابتسامة الساحرة ..صباه أيضا لم يكن ينبئ بجوهره الثمين ..مجرد شاب جامعي يأخذ الأمور بجدية ويستميت في دراسة علومه الطبية ..ويحرص على العدالة والصدق ويرفض أي نوع من التمييز يمكن أن تتيحه له وظيفة أبيه الكبيرة..ثم كانت اللحظة الفاصلة في حياته عندما تخرج فى كلية الطب بتفوق وبدأ العمل كطبيب امتياز في المستشفى الجامعي ليظهر المعدن الأصيل في نفسه وروحه ، وليعيد اكتشاف نفسه من جديد.
    فوجئ بالفقر المدقع والمرض المذل والضعف الباكي في المستشفى المجاني…فوجئ بالقسوة والإهمال وإهدار قيمة الإنسان ..وكلنا نعرف كيف تدار هذه الأماكن مع مرضى فقراء لا حول لهم ولا قوة …وجد نفسه تذوب رقة وإشفاقا ..وجد رسالته وطريقه كما لم يجدها أي طبيب من قبل وسرعان ما كرس حياته كاملة لهذا العمل النبيل.

    المعدن الثمين

    حدث انقلاب شامل في حياته ولم يعد يعنيه من هذا العالم سوى تخفيف ألام المرضى …وتفانى في العمل .. لا يذهب لبيته إلا كل عدة أيام ..نسى راحته وأثار حيرة من حوله بقدرته المدهشة على قمع ذاته ..حتى في فترة التدريب (الامتياز) ظل أساتذته يذكرون انه عمل في هذا المكان طبيب غير عادي لم يصادفوا له مثيلا في الإخلاص والجدية والمثابرة..
    ثم تسلم بعدها عمله الجديد كطبيب مقيم في قسم أمراض النساء والتوليد بالمستشفى الجامعي وتحمل مسئولية شبه كاملة عن مريضاته ..تفانى في عمله لا ينام لحظة في “نوتبجيته” التي تمتد ليومين وأحيانا ثلاثة ..كان يؤمن بالعدل فلو نام هو فمن حق الكل أن ينام ..ذلك النوع النادر الذي يوصف بأنه (عنده دم ) فحينما يجد تقصيرا من هيئة التمريض يقوم بمهامها إنقاذا للموقف ..لم يكن يأنف أن يحمل حذاء المريض ـ وكم شهدته أروقه المستشفى يحمل على كتفه أنبوبه أكسجين ويصعد بها الدرج مسرعا لاهثا لأن العامل غير موجود والمريضة تموت ..

    يتبرع بدمه في حالة وجود أي مريضة نازفة لدرجة تبرعه بالدم خمسة عشر مرة في عام واحد ولم يكن – كطبيب – غافلا أنه يؤذي نفسه ولكن يطيش صوابه لحظة أن يرى مريضة نازفة توشك على الموت …في ليلة واحدة وهو في قمة الإرهاق من العمل تبرع بدمه مرتين متتاليتين ..فأبي جسده أن يحمله وانهار رغم المقاومة .

    نجم هادي

    وكان بذله للمال لا يوصف ..كل ميراثه عن آبيه وراتبه في رحلة العمر تحول لشراء أدوية الفقراء ..وبات يحرم على نفسه الطعام الجيد أو الرفاهية ..لمدة عشرين عاما بعد تخرجه لم يذهب يوما لمصيف أو يتنزه ..إن مشاهد الفقر والمرض والضعف تحاصره وتعذبه ولم يكن ليحترم نفسه لو انه تساهل لحظة ..تحول العنبر المسئول عنه فى مستشفى الفقراء المجانى إلى جنة صغيرة على حسابه الشخصي فابتاع له كل الرفاهيات من ماله ومضى في طريقه يضئ ليل الآخرين المعذب كنجم هادي ..
    كان من أصحاب الفكرة الواحدة لم يرحم نفسه ولم يرحمه أحد ..ولم تكن له أي حياة سوى مع المرضى والمراجع الطبية ..كان عالما في مجاله ، تبحر وتعمق في تخصصه فلم يكن لديه شاغل غيره على مدى رحلة العمر ..وهدفه محدد : تقديم خدمة أفضل مؤمنا أن الطبيب – كالقاضي – يجب ألا يأخذ أجره إلا من ربه وإلا فقد نزاهته، لذلك فهو لم يفتتح عيادة خاصة قط في حياته ولا دخل جيبه قرشا واحدا من مريضة بل كان يعطي – صحته وحياته وماله – بلا حدود ..تتحول كل مريضة إلى قضيته الخاصة التي تشغل باله ليلا ونهارا حتى يتم الله شفاءها أو يتولاها الله برحمته إذا كان ميئوسا من علاجها ..

    كان مشغولا باستمرار ولذلك لم يكن ممكنا أن يستدرجه أحد للحديث عن نفسه أو يدلي بآرائه في السياسة أو يتحدث عن الكرة ..لم يكن يقبل أن يضيع لحظة واحدة في غير العلم والعمل به..كان يعرف هدفه ويسلك أقصر الطرق إليه دون أن يسمح لشيء بتشتيت انتباهه ..لم يكن يملك سيارة لأنه لا يريد أن يحمل هم امتلاك شيء وسيارات الأجرة تكفيه..وعزف عن الزواج والإنجاب ..وفهمه للدين كان مميزا: لم يتكلم يوما عن الإسلام السياسي ..لم يدل يوما بآرائه في الحياة والمجتمع ..لكنه خدمهما كما لم يفعل أحد .

    صيد إنسان

    المدهش والمثير للحيرة أن هذا الرجل النبيل قد حورب وأوذي كثيرا جدا ؟ كان هذا عجيبا حقا ..إنسان متجرد بهذا الشكل ليست له أي مطامع ..رفض أن يفتح عملا خاصا به ..يرفض النميمة والشللية ..ولا تهمه الترقية الوظيفية وغير مستعد للدخول في مناقشات سياسية أو اجتماعية ..إنسان لا تنفك أساريره الجادة العابسة إلا مع مريضاته البائسات من قاع المجتمع : هانم ومسعدة ونحمده وغيرهن ..يقضي معهن أوقات فراغه القليلة متربعا بجوارهن على السرير المعدني الرخيص الأبيض مستمعا إلى مشاكلهن البسيطة ويذوب رقة وضعفا إذا بكت إحداهن أمامه..
    أليس عجيبا أن تحدث شبة عملية صيد آدمية له ؟

    كيف ولماذا ؟
    هل يكون السبب أنه تحول بالنسبة للنفوس الصغيرة المتكالبة إلى دليل إدانة مستمر ومرهق؟ ..هل كان يؤذيهم أن يروا صغار نفوسهم بجواره ؟ الله أعلم . لكن الشيء المؤكد أنه كان يقف صامتا مقهورا لا يعرف كيف يرد على من يؤذيه وينتقص من قدره ويتهمه بالخبل والمبالغة..ثم ينصرف في أدب لأداء عمله .
    ولذلك لم يكن عجيبا أن ينزلق في هاوية الاكتئاب والإجهاد الجسدي والروحي بعد ركض ما يزيد عن عشرين عاما منذ تخرجه .. ولكنه كان يرد على نصائح من يحبونه – وهم كثر – بالصمت فقط.

    حظ عاثر ومعركة مستمرة

    ولله تعالى حكمته التي لا يملك لها المؤمن سوى الإذعان ..كان قليل الحظ في حياته وتصادفه المشاكل أينما ذهب ..ويبدو أن تدنى الإيقاع الحيوي لبعض الناس حقيقة ملموسة ..لقد تعرض هذا الرجل النبيل لابتلاءات عديدة يصعب حصرها..فمرة اكتشف وهو في عريض الطريق ضياع ملف مريضة فطاش صوابه وعاد أدراجه دون أن يفكر في النظر أمامه لتصدمه سيارة مسرعة ويقضي شهورا عديدة يعاني العجز والألم دون أن ينسى وهو غيبوبة الألم أن يبرئ ساحة من صدمه..ومرات يتحرش به بعض الأشقياء ويؤذونه وهو في طريق عودته متأخرا من المستشفى ..ومرة يسير في الطريق ليتصادف انتحار فتاة أمامه ليتناثر مخها أشلاء على قدميه وهو الرجل الرقيق الحس المرهف الوجدان ومرات يتعرض لصنوف من الاضطهاد والقهر من بعض أساتذته..

    تالله ما أشد قصور الكلمات إذ تعبر عن حياة كاملة قضى معظمها مجهدا من قلة النوم وإجهاد العمل ودسائس الأشرار ..هكذا مرت أيامه ولياليه ..جنديا في معركة مستمرة دون زواج أو أبناء أو ترفيه حتى ضاعت نضارة الشباب وبدأت الكهولة المعذبة ..وارتسمت ملامح العذاب والاكتئاب والمرض الجسدي على وجه الفارس النبيل ليلزم الصمت تماما وتبدأ رحلة العزلة فلم يعد هناك أي شعاع نور في حياته سوى حبه لأطفال العائلة وتكريس أوقات فراغه القليلة لهم .

    الفارس يترجل عن جواده

    ثم جاء ذلك الصباح الحزين ..الأول من نوفمبر عام 2003
    تأخر استيقاظه عن المعتاد ففتحوا الباب عليه فوجدوه منكفئا على وجهه في غيبوبة كاملة .. نزيف بالغ في المخ وظل في غيبوبته أسبوعا كاملا حتى فاضت روحه الكريمة وقت صلاة الجمعة في شهر رمضان المبارك.
    في هذا الأسبوع حدث الكثير..
    تذكر الكثيرون – بعد فوات الأوان – أنهم ظلموه ولم ينصفوه وهو حي ..تذكروا وقتها فقط أنه كان يحيا بينهم رجل لم يطمع في دنياهم وبرغم ذلك شاركوا في قذفه بالحجارة أو صمتوا على إيذائه .

    في أيام غيبوبته السبعة حل سلام روحي عجيب على ملامحه المتعبة ..وكأن كل أيام عذابه الماضية لم تحدث أبدا .. إن الألم مهما كان عظيما فإنه ينتهي – حين ينتهي – ويبقى الأجر إن شاء الله .. كان جميلا وقد نفض الغبار عن ملامحه المتعبة وعاد إلى رونقه وكأن المعركة لم تحدث أصلا.. أحسست بشكل ما وكأن كل ألام حياته لم تحدث على الإطلاق وأنا أراه في اكتمال رجولته يشع نورا وبهاء في سلامه المنعزل العميق .بعيدا عن هذا العالم الذي آذاه ، هو الذي لم يكن يريد منه شيئا..

    مات الرجل وبموته نقص الجمال في الأرض.. وذهب إنسان فهم الدين على معناه الصحيح – وسط كل هذا الضجيج حولنا – أنه عمل باخلاص ورحمة بالمرضى والضعفاء

    ——————————————————————————-

    منقووووووووووووووول

مشاهدة مشاركة واحدة (من مجموع 1)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد