بسم الله الرحمن الرحيم

اخي القارئ
وعدتك في مقالتي السابقة التي عنوانها ” بين الذوق واليقين ” ان احدثك حديثا مستقلا عن سبب تاخر العالم الاسلامي صناعيا فاليك الوفاء :
يقول الهدامون والمضبوعون بالحضارة الغربية والشرقية ان الاسلام هو افيون المسلمين حيث انه يدعوهم الى التوكل على قوى غيبية من وراء الطبيعة قادرة على رفعهم الى اعلى المقامات وكفيلة بنصرهم في المعارك من غير سلاح ولذلك فان الاسلام هو الذي هبّط هممهم فلم يجدّوا السير في سبيل النهضة الصناعية والعسكرية كبقية الامم .
هذا الكلام هراء فنحن لا ننكر قدرة الله ونصره للمؤمنين ولكن الاسلام يحث المسلمين على اعداد القوة العسكرية لمواجهة الاعداء وهذا يقتضي اعداد القوة الاقتصادية التي تدعم القوة العسكرية والقوة الاخلاقية التي تدعم القوة العسكرية والصناعية والقوة الكامنة في الوحدة على جميع مستويات الامة سواءا الوحدة في الخلافة العامة والتعاون فيما بين افراد العائلة الواحدة داخل البيت . كما يفرض الاسلام على المسلمين القوة الفكرية النابعة من التوجيه الحكيم والذي هو كامن في تلاوة الايات القرانية التي تنبع بالحياة والقوة والحكمة ، ولا يمكن الاطلاع على القوة الكامنة في سطور القران الكريم الا بعد تعلم القراءة والكتابة ولذلك كانت اول كلمة نزلت في القران الكريم كلمة { اقْرَأْ } والاسلام يعتبر التقصير في شيء من ذلك إثم تستحق الامة بموجبه عقوبة الله سبحانه وتعالى وتستحق من الله سبحانه وتعالى حرمان النصر لذلك الذنب .
ولقد نص علماء الاسلام على ان تعلم الحِرَف جميعها فرض كفاية على الامة حتى لا تصبح بحاجة الى عدوها في شيء من ذلك لان الحاجة ذل في نظر الاسلام والمسلم لا يجوز له ان يذل للكافرين . ولكن اليك السبب في تاخر الامة الاسلامية في الوقت الحاضر :
كلنا يعلم انه لا يستوي العالم والجاهل كما قال سبحانه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } فالعلم هو اساس كل نهضة وتقدم وازدهار .
نزل القران على امة امّيّة جاهلة فقيرة منفية في جنبات الارض لا وحدة تجمعهم ولا دولة توحدهم ولا امن يظلهم ولا قوت يشبعهم ، لا ماء ولا زرع ولا استقرار ولا قوة ولا سلاح ولا فكر نيّر ، اصنام تخر لاصنام تطلب منها شفاء المرضى واصلاح الحال من حجارة صماء منحوتة اكثرها على ظهر الكعبة تراث ابراهيم النبي الحكيم الحليم المفكر ، فلم يكن اشفى ولا انجع لدائها وظمئها من الكلمة الاولى التي نزلت في كتاب الله الموجه اليها { اقْرَأْ } وكلمة { اقْرَأْ } تتضمن كل فكر فالعلم شيء غير الجهل المركب الذي تموج به سطور الكتب المضللة اليوم والتي لا تخدم الا اغراض كاتبها .
فغرْسة العِلم هذه من الله سبحانه غرسها الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة فاورقت في عهده وعهد خلفائه الراشدين وازدهرت في العصر الاموي واعطت اطيب واكثر ثمارها في العصر العباسي ، لكن خيرها في العهد الاول كان نبراس الجميع وفي العهد الاموي كان عنه بعض الميل وفي العصر العباسي كان هذا الهدى نظريا عند الحكام اكثر من كونه عمليا ولكن هذا الاعراض من الخلفاء والوزراء والولاة والسفلة من الناس لم يوقف العلماء عن تصانيفهم وسهرهم رجاءا منهم ان ترجع الامة حاكمها ومحكومها الى الاسلام فيجدوا تلك التصانيف المفصلة كافية لإرواء ظمئهم .
واخيرا نسي ابناء الحفلة العراة من العرب وابناء العبيد المستضعفين من الفرس والروم وغيرهم من الشعوب المسلمة ان الاسلام هو كان سبب خلاصهم وخلاص ابائهم فتم اعراض الاغلبية الساحقة من الناس عن ربهم فساءت احوالهم وتدهورت اوضاعهم الى ان حال الامر الى غزو التتار الذين قتلوا في المشرق الاسلامي اكثر من اربعين مليون مسلم واغرقوا كتب العلماء في دجلة وقتلوا العلماء ، كما ساعد في هدم الامة والقضاء على نهضتها الثقافية ما حل بالاندلس من الاجانب الذين قتلوا العلماء واحرقوا المكاتب وشردوا الشعب . وساهم الغزو الصليبي مساهمة فعالة في الاجهاز على الامة المسلمة وثقافتها كما تعلمه من التاريخ ، وهناك اسباب اخرى من الخلافات الداخلية كان لها اثر كبير في اضعاف الثقافة والحضارة الاسلامية ساحدثك عنها في موضوع مستقل ان شاء الله تعالى .
ثم دارت الايام وسيطرت الدولة التركية على معظم العالم الاسلامي ، ومعلوم ان المرض الذي قضى على الدولة العثمانية نشا معها من اول يوم ولدت فيه ، ذلك المرض هو عدم العناية الصحيحة بالعلم ونشر الثقافة . لما ولي الحكم العثماني كان الحاكم تركيا والدستور عربيا فكان فارق اللغة حجابا بين الحاكم والدستور والقوة لغير اهل اللغة فصعُب اقناع المتغطرسين الذين اعمتهم عظمة المناصب وهالتهم ضخامة الرواتب بضرورة ما هو ضروري من تعاليم الدستور الرباني الذي نزل باللغة العربية .
هنا وقفة ومقارنة :
في العصر الذي كان فيه عندنا من العلماء ما لو قسمت مصنفاته على ايام حياته لكان نصيب كل يوم كراسة ، يعني عدة اوراق . في تلك الايام كان الشرق والغرب في سبات عميق وجهل مطبق وغفلة تامة عن العلم وفي هذه الفترة التي حكمت فيها تركيا كان العكس من ذلك . ففي الوقت الذي كانت النهضة العلمية والثقافية في اروبا تتوقد لم يكن عندنا في كل ثلاث قرى من يقرا كتابا من جندي او غريب ارسله الى اهله ، وغفلت الامة المسلمة والحكومة الاسلامية عن اول كلمة نزلت من الله اليها { اقْرَأْ } .
نعم كانت الدولة الاسلامية في سباق تسلح مع اعدائها لكن اذا سلمت عملا لمتعلم اتقنه اكثر من اميّ لا يقرا ولا يكتب . والسلاح الذي يحتاج الامي للتدريب عليه حتى يستعمله بمهارة الى عدة اشهر يمكن ان يتقن المتعلم التدريب عليه واتقان استعماله في اسابيع ، ومن البدهي ان استيعاب المتعلم اكثر من استيعاب الامي . لهذا السبب تفوقت اوروبا على تركيا في ميدان الصناعة والتسلح في فترة ما قبل الحرب العالمية الاولى .
ثم كانت الكارثة وانهيار الدولة الاسلامية التي كانت تضم ( 36 ) ست وثلاثين ولاية تحت راية واحدة وغدر الاجانب بالشريف حسين وخاب امله في قيام دولة موحدة في الشرق العربي على الاقل كخطوة اولى ، وقسمت تلك الدولة الواحدة الى ما ينيف على اربعين دولة . ومن سوء الطالع ان ذلك الانهيار للدولة الاسلامية كان في بداية النهضة العلمية الحديثة حيث لم تكن النهضة العسكرية والصناعية في تلك الايام قد وصلت الى معشار ما وصلت اليه الان . فمنذ تلك اللحظة نحن وقفنا والعالم استمر في نهضته .
واخذت الامة طريقها في محاربة الجيوش الغازية وطردها من البلاد الاسلامية وهي الان في محاولة لتوحيد صفوفها واستعادة وحدتها واستئناف نهضتها بعد ان دب الوعي فيما بين ابنائها وعمت الثقافة ارجاءها وعادت ثقتها بدينها وايقنت ان لا خلاص لها الا بالعودة الى منبع الحياة ، ذلك هو القران الكريم اصل عزتها ومنبع قوتها ونسال الله التوفيق ، فهذه هي الاسباب الحقيقية لتخلف الامة ، وليس الاسلام افيونا ولا مخدرا ولا داعيا الى التواكل ولا هذا من طبيعة الاسلام ولم تفهم الامة في يوم من الايام ان تركها لاسباب الرفعة والعزة قربة الى الله تعالى ، ولكن المأجورين والمغرورين هم الذين توهموا ذلك .
ونسال الله ان يرينا عزة المسلمين وان يمتعنا في ظلال الوحدة الاسلامية التي هي امنية كل مسلم والحمد لله رب العالمين .

الشيخ محمد علي سلمان القضاه عليه رحمة الله