الرئيسية منتديات مجلس الثقافة العامة المنظور الخلدوني للتعليم

مشاهدة مشاركة واحدة (من مجموع 1)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #42164
    medsalem
    مشارك

    يعتبر ابن خلدون في تقدير الكثيرين أبرز مفكر اجتماعي ظهر في الفترة الماضية بين أرسطو ومكيافيلي، وتأتي مكانة هذا المفكر من كونه انتصب في ملتقى جميع الاتجاهات التاريخية والفلسفية والفكرية والفقيهة. وتمكن بفضل منهجيته الشمولية وموسوعيته من أن يفحص ويشرح حقبة مهمة من حقب التاريخ الإسلامي، فاستنتج من ذلك الفحص والتشريح قوانين ومقاييس لفحص وتمحيص الأخبار المروية عن تلك الحقبة واكتشف بذلك قاعدة السياسة والاجتماع لتلك الحقبة.
    كتب ابن خلدون فاتبع وأبدع ونقل وجدد وأول. وتحدث عن الكثير من قضايا العلوم والتعليم، فصنف العلوم إلى: علوم حكمية فلسفية، وعلوم نقلية وضعية وأكد أن التعليم ضرورة من ضرورات العمران وأنه لا يحصل إلا بحصول ملكة التعلم. وكتب في مواضيع أخرى كثيرة.
    وإذا كانت الموضوعات الفكرية والتاريخية والسياسية والاجتماعية قد حظيت بقسط وافر من التحليل والدراسة من لدن الباحثين والدارسين لفكر ابن خلدون سواء العرب أو المستشرقون، فإن موضوع التعليم عند ابن خلدون لم ينل الاهتمام الكبير من قبل هؤلاء بالرغم من أهمية الأفكار التعليمية الواردة في «المقدمة» وذلك بالنظر إلى قوتها وتماسكها المنطقي وكذا بالنظر إلى تميزها.
    نظرية الأطوار
    يتضح أن التعليم في «المقدمة» موضوع مهم بالنظر إلى عدد الفصول التي أفردت له (أكثر من ثمانية فصول). وهذا يؤكد أن التعليم هو أحد اهتمامات ابن خلدون، ولكنه لا يرقى إلى مستوى الاهتمام التاريخي والاجتماعي والسياسي. والملاحظ أن ابن خلدون أجّل الكلام عن التعليم إلى الكتاب الثالث من «المقدمة» وتحديدًا إلى الفصل السادس، حيث نجد التعليم مصنفًا مع العلوم رغم كونه صنعة من الصنائع حسب ابن خلدون.
    فإذا كان الفصل الخامس، من الناحية المنهجية، هو الفصل المخصص للصنائع والفصل السادس هو المخصص للعلوم، فلماذا أدمج ابن خلدون التعليم (وهو صنعة) في العلوم ولم يتحدث عنه عندما تطرق للصنائع؟ بعبارة مختصرة، إذا كان التعليم صنعة، فلماذا يحشر في فصل خاص بالعلوم؟!
    تكمن براعة ابن خلدون في كونه فطن لتلك الجدلية بين العلم والتعليم لذلك ربط التعليم بالعلوم من حيث الهندسة العامة للكتاب رغم أن التعليم في رأيه صنعة من جملة الصنائع. فابن خلدون يعتبر أن الإنسان مفكر بطبعه، وأن فكر الإنسان يرغب دائمًا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممن تقدمه، فيلقن ذلك عنهم، فيكون حينئذ علمه علمًا مخصوصًا وتتشوق نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التعليم من هذا.
    فالفكر يبحث عن معرفة وتحصيل ما ليس لديه بالطبيعة.
    والعملية إذًا أخذ وعطاء، تعلم وتعليم، وهي تتم على ثلاثة مراحل:
    ٭ مرحلة التعليم والتحصيل (أخذ العلم).
    ٭ مرحلة حيازة علم مخصوص.
    ٭ مرحلة تعليمية للجيل الجديد.
    هذه المراحل تتكرر عبر الأجيال ابتداء بالتعلم وانتهاء بالتعليم مرورًا بحيازة العلم.
    وهذا النوع من التحليل ليس غريبًا عن ابن خلدون الذي يتبنى نظرية الأطوار في تحليل وتفسير الظواهر التاريخية والسياسية والاجتماعية. فإذا كان التاريخ العام ينتقل من البداوة إلى الحضارة، وإذا كانت الدولة تنتقل من الشباب إلى الانحطاط، وإذا كانت السلطة تتطور من الملك الطبيعي إلى الخلافة مرورًا بالحكم العقلي، فإن الفكر يتطور من التعلم إلى التعليم بل إنه يتطور بالتعلم ويطور بالتعليم. والنتيجة المنطقية لهذا التحليل التعليمي هي أولية التعلم عن التعليم (أولية جدلية وليست أولية مطلقة).
    صنعة المذاهب
    يرى ابن خلدون أن «تعليم العلم صناعة اختلفت الاصطلاحات فيه، فلكل إمام من أئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها». فالاصطلاح هو منهج تدريس العلم. وتعدد الاصطلاحات واختلافها مثل تعدد طرق الصنعة لذلك تعددت الاصطلاحات وكان العلم واحدًا.
    وهذا ما دفع ابن خلدون إلى اعتبار التعليم صنعة. ففي الصنعات (التقليدية) تختلف طرق الصنع ويبقى المصنوع واحدًا.
    لقد اتفق المسلمون (حسب ابن خلدون) على ضرورة تعليم القرآن للأبناء منذ الصبا لكي يترسخ لديهم الإيمان. لكن المسلمين اختلفوا حول كيفية تلقين القرآن لخصها ابن خلدون في أربعة مذاهب:
    ٭ مذهب أهل المغرب الذي يعتمد على تحفيظ القرآن والأخذ بطرق الرسم ومسائلها.
    ٭ مذهب أهل الأندلس الذي يقوم على تحفيظ القرآن والشعر وقوانين العربية وتجويد الخط.
    ٭ مذهب أهل إفريقية الذي يركز على تحفيظ القرآن والحديث ودراسة قوانين العلوم والوقوف على روايات وقراءات القرآن والعناية بالخط.
    ٭ مذهب أهل المشرق الذي يخلط ويمازج في طريقته التعليمية بالإضافة إلى جعل الخط فنًا مستقلاً وذلك بوصفه صنعة من الصنائع.
    ويخلص ابن خلدون من هذا العرض للمذاهب التعليمية في الأمصار الإسلامية إلى أن أهل المغرب أقوم على رسم القرآن وحفظه لكنهم قاصرون على تحصيل ملكة اللسان العربي الفصيح لأن معظم تركيز مذهبهم هو على حفظ القرآن. وحفظ القرآن (حسب ابن خلدون) لا تنشأ عنه ملكة اللسان الفصيح لأن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله والنسج على أساليبه، وحظه «الجمود في العبارات والكلام». أما أهل إفريقية فهم أفضل حالاً من أهل المغرب. وفي المقابل نتج عن مذهب أهل الأندلس التفنن في العلوم وكثرة رواية الشعر والتقصير في العلوم الشرعية. والملاحظ أن ابن خلدون قد كشف في هذا المحل عن الترابط بين المذهب التعليمي والبنية الثقافية لأهل ذلك المذهب.
    انطلاقًا من هذه الخلاصة اتجه ابن خلدون إلى بلورة مفهوم التعليم المفيد باعتباره بديلاً مقبولاً لتجاوز سلبيات المذاهب التعليمية السابقة.
    قبضة القهر
    يعتبر ابن خلدون أن كثرة التآليف عائقة عن التحصيل. ويقرر «أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته، كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعاليم وتعدد طرقها ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك». والمقصود هو تلك التآليف التي كان يستغرق فيها المتعلمون عمرهم كله من أجل حفظها ومراعاة طرقها، وهي تآليف فقهية ولغوية «كلها متكررة والمعنى واحد والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها».
    إن هذا النقد يهدف إلى الاقتصار على المسائل المذهبية الأساسية في الفقه تيسيرًا للتعلم واختصارًا للزمن وبالتالي الوصول إلى تعليم مفيد.
    وفي المقابل لا يعتبر ابن خلدون أن التعليم القائم على الاختصارات هو البديل، بل يرى أن كثرة الاختصارات مخلة بالتعليم. ويعزو ذلك إلى أنها تخل بالتبليغ (البلاغة: العلاقة التواصلية بين المرسل والمتلقي، المعلم والمتعلم)، وتجعل الفهم أعسر فضلاً عن أنها تستبق المراحل المنهجية وتلقي الغايات على المبتدئ في التعلم في أن ينضج لتلقيها وفهمها. والنتيجة أن «الملكة الخاصة من التعليم في تلك المختصرات، إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة، فهي ملكة قاصرة على الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة».
    وينتقد ابن خلدون «العقاب البدني» المسلط على المتعلمين ولا سيما الأطفال الصغار منهم، كما يكشف عن النتائج السلبية للشدة والعسف والقهر في التعليم. فالشدة تؤدي إلى انضمار نشاط وانبساط المتعلمين وتقود بالتالي إلى الركون والكسل. ومن ثم يحمل الصغار على الكذب والخبث. ويتوقف ابن خلدون لتحليل التوابع السلبية للشدة. فيكشف أن الخوف من القهر يدفع المتعلم حتمًا إلى الكذب والتظاهر بغير ما في عقله. فيقود هذا السلوك إلى تعلم المكر والخديعة اللذين يستنبطهما المتعلم فيصيران من عوائده وأخلاقه». وإذا بلغ المتعلم هذا المستوى «فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الخلق الجميل، فانقبضت على غاياتها ومدى إنسانيتها وعاد في أسفل السافلين». والمحصلة هي أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم إذ يقود إلى انطماس المعاني الإنسانية وبروز المعاني الحيوانية.
    لا يقتصر ابن خلدون على هذه الخلاصة المرتبطة بنفسية المتعلم المقهور بل يذهب أبعد ويعمم كلامه على الأمم قائلاً: «وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف»، مستشهدًا باليهود الذين وصفوا في كل العصور بالتخابث والكيد.
    وعلى ذلك فابن خلدون يطرح «التعليم المفيد» بوصفه بديلاً تعليميًا متخلصًا من العناصر التي انتقدها. فيرى أنه ينبني على المبادئ التالية:
    ٭ التدريج: بحيث يلقى العلم شيئًا فشيئًا وقليلاً قليلاً، وتتم مراعاة المبادئ التالية:
    – إلقاء مسائل ذات صبغة عامة ومجملة من كل باب تكون هي الأصول مع أخذ المستوى العقلي للمتعلم بعين الاعتبار ومراعاة استعداداته لقبول ذلك العلم. والهدف من هذا الإلقاء الأولي هو تحصيل المتعلم لملكة جزئية وضعيفة تساعده على ولوج العلم أو الفن المدروس وتحصيل مسائله.
    – استبعاد المسائل المقفلة وتجنب إلقاء غايات العلوم أو الفنون في بداية التعلم لأن هذا الإلقاء يقود المتعلم إلى الانحراف عن قبول الفن أو العلم المدرس ما يؤدي إلى التكاسل وبالتالي إلى هجران العلم.
    – عدم الإطالة على المتعلم في الفن أو العلم الواحد لأن الإطالة تؤدي إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن أو العلم بعضها عن بعض بسبب تفرقها.
    ٭ التكرار: إن العمليات السابقة ترمي إلى تمكين المتعلم من تحصيل ملكة أولية (جزئية وضعيفة) تؤهله إلى فهم وتحصيل المسائل الأخرى من ذلك العلم أو الفن. وهذه المسائل تقوي الملكة (الأولية) وتؤهل لاكتساب مسائل أخرى. وهكذا تباعًا. وفي نظر ابن خلدون هذه هي المرحلة الأولى.
    بعد انتهاء الإلقاء الأولي (الإجمالي)، تأتي المرحلة الثانية بحيث يرجع المعلم بالمتعلم إلى تلك المسائل التي سبقت دراستها فيرفع مستوى التعليم إلى أعلى ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمالي ويذكر ما هنالك من خلاف ووجهة إلى أن ينتهي إلى آخر الفن. وبهذا تنتهي المرحلة الثانية.
    تبتدأ المرحلة الثالثة، بالرجوع بالمتعلم إلى جميع المسائل التي تمت دراستها سابقًا، فيعمل المعلم على أن «لا يترك عويصًا ولا مهمًا ولا مغلقًا إلا وضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته».
    وعلى هذا الأساس، نستنسج من كلام ابن خلدون ثلاثة مراحل للتعلم: مرحلة الابتداء ومرحلة التعمق ثم مرحلة «استكمال الخبرة». ونشير هنا إلى أن ابن خلدون لم يفته أن ينبه إلى أن تحصيل ملكة قوية ليس بالضرورة مرتبطًا بهذا الترتيب (التسلسل) بل يمكن تحصيل ملكة قوية دون حاجة إلى هذه المراحل.
    ٭ عدم الخلط: والمقصود به «ألا يخلط على المتعلم علمان معًا» لأن الخلط يترتب عليه انقسام الذهن وتوزيع التركيز. فتنشأ عن ذلك عقبات تعليمية أهمها الاستغلاق والاستصعاب. ولا يجني المتعلم بالتالي سوى الخيبة. في المقابل إذا تفرغ الفكر إلى فن واحد فقد يتمكن من التحصيل الجيد. وابن خلدون نفسه يتحدث عن هذه الفكرة بشيء من التردد.. «وإذا تفرغ الفكر إلى تعلم ما هو بسبيله مقتصرًا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله».
    ٭ عدم التوسع في دراسة العلوم الآلية: يصنف ابن خلدون العلوم إلى: علوم حكمية فلسفية، وعلوم نقلية وضعية. وفي تصنيف آخر يميز بين: علوم مقصودة بالذات، وعلوم آلية. الأولى مقصودة في ذاتها كالشرعيات والفقه وعلم الكلام. والثانية ليست سوى أداة لدراسة الأولى والولوج فيها مثل اللغة العربية فهي ضرورة وطريق لبلوغ العلوم الشرعية لكنها ليست مقصودة لذاتها كلغة بل كطريقة إلى علم آخر مقصود لذاته.
    في هذا السياق، يرى ابن خلدون أن العلوم الآلية لا ينبغي التوسع فيها وفي تدريسها «لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها» ويتساءل مستنكرًا «فإذا قضوا (المتعلمون) العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟!». فالسبب وراء هذا الموقف هو ضخامة الكتلة المعرفية لهذه العلوم الأداتية رغم كونها طريقًا إلى علوم هي المقصودة بالذات. فابن خلدون ينظر إلى التعليم نظرة نفعية تصبو إلى تحقيق الملكة في أقصر وقت وبأقل العلوم الضرورية دون الإبحار في عمق العلوم الأداتية.
    ٭ الاهتمام بالكتابة والحساب: ركز ابن خلدون على تعليم هاتين الصنعتين لكونهما مفيدتين للعقل. فالكتابة تتضمن عملية ذهنية معقدة فيها «انتقال من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس». بعبارة أخرى «الانتقال من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب». أو بعبارة أكثر دقة، «الانتقال من دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة إلى دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة».
    إن تكرار هذه العملية الذهنية المتضمنة في الكتابة (من الحروف المرسومة إلى منطوق الحروف المرسومة، ومن منطوق الحروف المرسومة إلى الصورة الذهنية أو المعنى، والعكس صحيح) يكون ملكة الانتقال السريع بين الدوال والمدلولات. هذه الملكة تزيد العقل تعقلاً وفطنة وذكاء.
    أما الحساب ففي صنعته «تصرف في العدد بالضم والتفريق». وصنعة تحتاج إلى الكثير من البراهين والاستدلالات.
    من هذا التحليل يستنتج ابن خلدون أن الكتابة تقوي النظر العقلي، وأن الحساب يقوي العقل (العمليات الذهنية الصورية أو الشكلية أو المنطقية) لهذا يجب الاهتمام بتعليمهما.
    ٭ الرحلة لطلب العلم:
    يؤكد ابن خلدون أن كمال التعليم يكون بالرحلة لطلبه. فالرحلة تتيح الفرصة للقاء أهل العلوم المشايخ على اختلاف وجهاتهم ومشاربهم. وينتج عن هذا اللقاء صقل الملكات ووعي الاختلافات بين المشايخ على تعددهم، ثم التمكن من تجريد العلم وتمييزه، وأخيرًا التعالي على الاصطلاحات التعليمية.
    الاستيلاء على العلوم
    على امتداد الفصول المخصصة للتعليم وفي أكثر من موضوع في المقدمة ترد كلمة «الملكة». وفي كل مرة يتخذ معنى سياقيًا مضبوطًا. وليس من المجازفة القول إنه إذا كان مفهوم العصبية هو المفهوم المركزي في تحليلات ابن خلدون للسلطة السياسية والدولة والاجتماع البشري، فإن مفهوم الملكة هو المفهوم المركزي في تحليلاته المتصلة بالتعليم.
    ولتحديد تعريف واضح لهذا المفهوم، سنرجع إلى نص المقدمة نفسه لجرد التعريفات التي أعطاها له ابن خلدون نفسه. وهذا أسلم طريق نتبعه من خلال تتبع معاني المفهوم مثلما وردت في النص الأصلي.
    إن الملكة أولاً فردية ومكتسبة (ليست جماعية ولا فطرية)، كما أنها جسمانية (خارجية وملاحظة) حتى ولو كانت قدرة ذهنية. يقول ابن خلدون: «والملكة كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ». والملكة متميزة عن مفهومي الفهم والوعي (تتجاوز هذين المفهومين) لأن «الملكة في غير الفهم والوعي». فالفهم والوعي مشتركان بين العامي والجاهل والمبتدئ والعالم. والحال أن الملكة لا تكون إلا للعالم. والملكة فوق ذاك تكتسب بتكرار الأفعال، والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، فتكون حالاً، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة فيزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة». وعندما ترسخ هذه الملكة يحصل الحذق والذكاء والكيس والاستيلاء على العلوم والصنائع. وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره. «وما لم تحصل الملكة لم يكن الحذق». وفضلاً عن هذا، الملكة تتطور وتجود مثلما تنطفئ وتخمد، «فالمتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم، استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق»، «فتجود ملكته«. «وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه».
    بتركيب العناصر أعلاه، نصل إلى التعريف التالي لمفهوم الملكة: صفة فردية، مترسخة، جسمانية، قابلة للملاحظة، متطورة، تجود وتنطفئ، تكتسب بتكرار الفعل، وينتج عنها الذكاء والحذق والكيس».
    والملاحظ أن هناك نوعين من الملكات، حسب ابن خلدون:
    ٭ الملكات الأساسية التي ينبغي للمتعلم أن يحصلها وهي غاية التعلم وهدفه الأسمى «وذلك أن الحذق في التعلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله».
    ٭ الملكات الوسطية (الأداتية) التي تخدم غيرها في طريق تحصيل الملكة الأساسية. فالمتعلم يحصل ملكة أولية (وسطية) تساعده على الوصول إلى الملكة الأساسية مثل: الصلاة التي لا تتم إلا بحصول الوضوء.
    ادعاء خاطئ
    عادة ما يرد اسم ابن خلدون مرتبطًا بعلم الاجتماع أكثر من ارتباطه بعلم التربية أو بعلم التدريس. ولقد شاع الاعتقاد لدى الكثيرين أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع رغم عدم صحة مثل هذا الادعاء من الناحية الابستمولوجية(1). ومن جهتنا لسنا نمهد للادعاء بأن ابن خلدون هو مؤسس علم التربية أو علم التدريس بل نريد الكشف عن نقاط الالتقاء بين الأفكار الخلدونية ومعطيات وأسس التعليم الحديث.
    من العسير جدًا القول إن الأفكار التعليمية الخلدونية ترقى إلى درجة النظرية التعليمية. والسبب أن النظرية تستلزم جملة من الشروط التي بدونها لا يمكن أن تسمى نظرية. من بين هذه الشروط.
    – المسلمات.
    – الاتساق الداخلي.
    – الانسجام بين المفاهيم المحورية.
    – القابلية للاختبار.
    – التعبير عن جملة من الحقائق التجريبية.
    – القدرة على تفسير الوقائع الماضية والحالية حتى المستقبلية (في بعض الحدود).
    وتبعًا لهذا فالنظرية (بهذا المعنى) لا وجود لها حتى في علم التدريس الحديث. لذلك يفضل الدارسون استخدام نماذج تعليمية.
    صحيح أن ابن خلدون يسلم بأن الفكر الإنساني يتوق إلى المعرفة، وأن المفاهيم التي طرحها تتمتع بقدر كبير من الاتساق الداخلي والانسجام فيما بينها، وأن هذه الأفكار التي طرحها قابلة للتجريب وتعبر عن حقائق عصره رغم أنها لا تتسم بالعمومية والشمول الكافيين، ولا تصلح لتفسير الوقائع التعليمية كلها.
    لهذه الاعتبارات لا يمكن الحديث عن نظرية تعليمية خلدونية. ما يمكن الحديث عنه هو منظور تعليمي عند ابن خلدون. سنطلق عليه اسم «منظور التعليم المفيد» والسبب هو كون ابن خلدون أورد الحديث عن التعليم في سياق رؤية شمولية للطبيعة والإنسان والتاريخ والمؤسسات الاجتماعية. بعبارة أوضح، التعليم ليس سوى عنصر ضمن نسق كلي هو في ذاته تصور للعالم أو ما جرت العادة على تسميته في العلوم الاجتماعية بـ«النظرة العالمية». ولكن ألا يرقى هذا المنظور إلى مستوى مناظرة نموذج تعليمي مثل نموذج التدريس بالأهداف السلوكية.
    إلا أن المقارنة بين المنظور التعليمي الخلدوني ونموذج التدريس بالأهداف السلوكية شيقة جدًا وتكشف عن تناظر قوي في المفاهيم(2).
    المفاهيم الخلدونية المفاهيم السلوكية
    الملكة الهدف
    المذهب المحتوى
    الكتاب الوسيلة
    الاصطلاح الطريقة
    التفنن التقويم
    التكرار الدعم

    وهنا لا بد من الاعتراف بأن المنظور التعليمي الخلدوني يتضمن أفكارًا أصيلة ومتقدمة بالنظر إلى الفترة التاريخية التي عاش فيها (1332-1406م) فعندما كتب ابن خلدون ما كتبه لم تكن قد ظهرت للوجود لا سوسيولوجيا ولا سيكولوجيا ولا ديداكتيك ولا أهداف سلوكية ولا غيرها لكنه انتقد الكثير من وقائع التعليم الخاصة بعصره. ووجّه المفيد إلى التعليم المفيد. فهل ينتمي ابن خلدون حقًا إلى عهد ولى؟!

مشاهدة مشاركة واحدة (من مجموع 1)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد