الرئيسية منتديات مجلس الثقافة العامة مدينة الملوية .. بين الامس واليوم

مشاهدة 3 مشاركات - 1 إلى 3 (من مجموع 3)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #29181

    سامراء لم تعد تسرّ من يراها

    حكمت العالم ذات يوم.. لكن الاحتلال بات يفرض عليها حكم القوي على الضعيف

    .. إنها سامراء، أو “سرّ من رأى”، كما قيل فيها ذات يوم.. مدينة عريقة، بالغة العراقة، فيها من المعالم، ما يسر كل من يزورها، ويرى سحر جمالها، وفتنة عينيها، ويسترجع معها عظمة التاريخ.. إنها عاصمة المعتصم بالله العباسي، الذي جيّش جيشا عظيما لنجدة امرأة نادته يوما “وامعتصماه”، لكن تلك الفاتنة المعتصمية، باتت ترزح اليوم تحت الفقر والإهمال والاحتلال.. ولا يكاد بيت من بيوتها يخلو من معتقلين في سجون “الحرية” التكساسية، ذات الأيدي الحمراء الدامية.

    سامراء اسم يعرفه سائر العرب من محيطهم إلى الخليج. وبالرغم من كون المدينة قد كانت عاصمة لإمبراطورية عظيمة ذات زمن، وإن لفترة وجيزة، إلا أنها صارت اليوم مدينة صغيرة مهملة، لا يتجاوز عدد سكانها 285 ألف ساكن. تعيش على الزراعة بالأساس، لكنها مدينة تجارية أيضا من زمن قديم. ويعيش أهلها على شيء من الصناعات الخفيفة المتنوعة، وشيء من الصيد في بحيرة أو سد الثرثار، المقام على نهر دجلة، الذي يبدو لزائره آية من جمال. وفيها أكثر من 57 جامعا ومسجدا، تزيد قبابها ومناراتها الأخاذة المشهد روعة وجمالا.

    ويسكن سامراء العديد من العشائر العربية الأصيلة، منها عشائر البوباز والبورحمان والبونيسان والبودرّاج (وتعني بني باز وبني عبد الرحمن وبني نيسان وبني درّاج)، وأكبر عشائر المدينة عشيرة البوعباس (بني العباس). وهي تنتسب مباشرة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى آل بيته، عبر عمه العباس رضي الله عنه، وهم نسله. ويذكر بعض أهلها جدودهم إلى الجد السابع والعشرين، ليلتقي مع الصحابي الجليل العباس بن عبد المطلب عم النبي عليه السلام.

    وسكانها من أهل السنة والجماعة، وإن وجد في مدينتهم واحد من أعظم المراقد، التي يقدسها أبناء الطائفة الشيعية، ويأتونها من كل بلاد الدنيا.. من المناطق الشيعية في جنوب العراق، ومن إيران المجاورة، ومن دول الخليج والشام، ومن دول عديدة أخرى في العالم.

    من بغداد إلى سامراء

    يربط سامراء ببغداد طريق فسيح رحب، تتخلله جسور عظام، يتفرع بعضها عن بعض، ويمر بعضها فوق بعض، في أماكن محددة. وعلى جانبي الطريق ترافق المسافر من بغداد إلى “سر من رأى” بساتين النخيل والكروم، التي عمرت هذه الأرض من قرون مديدة، وتجعل السير إلى المدينة المقصودة هينا لينا رفيقا، فالخضرة وأشجار النخيل، وإن بدت ذابلة، بعض الشيء، بسبب الحرب والاحتلال، لا تغيب عن الناظرين طول الطريق.

    لكن آثار الحرب لا تزال ظاهرة على أطراف بغداد من طريق سامراء، رغم مرور الأشهر.. معسكرات ضخمة مدمرة.. علق السائق الذي يقود بنا السيارة المسرعة على الدمار، الذي لحقها، بأنه دمار شامل، برره المحتلون بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل.

    مبان متهاوية على عروشها.. بقايا القنابل ظاهرة على الطريق المحفّر في أماكن عديدة.. مدفع عراقي ضخم، لم يبق منه، وهو الواقف المنتصب حزينا، إلا هيكل يعلوه الصدأ، يصوب فوهته إلى اللامكان.. عربة أمريكية محترقة.. أشجار نخيل محترقة، تعاودها الخضرة مداورة، رغم قسوة الأوضاع، علامة على قدرة العراق على التجدد، والعودة قويا للحياة، مهما كانت المصاعب.

    دمار هائل طال معسكرات النخبة في الجيش العراقي، تمتد على مدى البصر.. مبان ضخمة سويت بالأرض.. أنقاض ضخمة لا تزال على حالها، جاثية على ركبها، تحاول القيام، لكن الأثقال تشدها إلى الأرض.. وقد علّق مرافقي العراقي على تلك المشاهد بالقول.. “لقد كانت حربا حقيقية.. لم يكن الأمر لعبة، ولا نزهة لقوات الاحتلال، ولكن التفوق التقني الهائل هو من حسم المعركة، وجيشنا قاتل ببسالة وشرف”.

    الطريق إلى سامراء يسير بنا الهوينا، ويقذف بنا في أعماق التاريخ.. فهذه أرض الحضارات من آلاف السنين، وفيها نشأت حضارة العرب والمسلمين، وتشكلت فيها لغتهم، وسائر علومهم، وفيها قيل أعذب شعر العرب وأرقه وأجمله، وأكذبه أيضا. ومن هنا كانت الدنيا تُحكم، ويأتي خراج السحابة طائعا، أينما نزل غيثها، إلى الرشيد في بغداد.

    لكن مشاهد الدبابات الأمريكية، والجنود المتوترين، تعيدنا إلى واقع العراق الأليم، وهو ما جعل الطريق من بغداد إلى سامراء محفوفا بكثير من المخاطر والمخاوف، التي تجول بصخب في أعماق النفس، وأدفعها عني دفعا..

    وفي الطريق بين المدينتين مررنا بقرى صغيرة، بات الناس في مختلف أصقاع الدنيا يعرفونها.. مررنا بمدينة التاجي، وهي قرية على تخوم بغداد، وفيها معسكرات ضخمة، فائقة الضخامة، للجيش العراقي السابق، يمتد جدارها، الذي يخفي ما وراءه، على امتداد أميال وأميال، وقد باتت اليوم تحت سطوة الاحتلال، وتُرجم بين الحين والحين بصواريخ وهاونات رجال المقاومة، كلما حل الظلام.

    ثم لاح لنا جامع قرية الطارمية، تتلألأ صومعته وتملأ الآفاق، وشجر النخيل الباسق، الذي يموت واقفا، يمتد على جانبي الطريق. والطارمية قرية من القرى الصغيرة، التي عرفت بقوة المقاومة فيها، وتعرضت لمداهمات وتفتيش مستمر. وما إن مررنا بالقرية الصغيرة، حتى اضطر السائق لتخفيض سرعة السيارة.. لقد لحقنا برتل أمريكي يتهادى على الطريق، وخلفه العشرات من السيارات والشاحنات العراقية، لا تسمح لها الدبابات والسيارات الأمريكية، التي تسير في منتصف الطريق بتجاوزها، إشارة منها لمن له القوة والسلطان في هذه البلاد.

    بعد ذلك مررنا بقرية الضلوعية، وهي من القرى، التي طار اسمها في الآفاق الأربعة، بسبب ما وقع فيها من عمليات مقاومة ضد قوات الاحتلال. ثم مررنا ببلدة بلد الصغيرة، التي بات الناس يعرفونها في كل مكان بلغه التلفزيون.. مبان متناثرة بين الحقول والبساتين، وشجيرات صفصاف.. وبقر يرعى على جانبي الطريق.. وبيوت بلاستيكية صغيرة تزرع فيها الخضراوات.. أما النخيل، الذي يموت واقفا فيملأ المشهد ويحتله عن جدارة.

    السيارة تسير مسرعة.. لكن بدأ السائق يخفض سرعته. يا للهول.. الطريق مقفل.. قوات الاحتلال تسيطر عليه، وتمنع المرور. وأعداد السيارات تتكاثر، حتى صار المشهد موترا للأعصاب.. السائق يلعن الاحتلال، ويسب المحتلين، وينعتهم بأسفل النعوت.. وليس أمامي سوى أن أنتظر، وأسمع الكلمات القاسية تنبعث من فم السائق. انتظرنا طويلا، حتى فتح الطريق، فانطلقت السيارات والشاحنات في الاتجاهين في حركة متوترة مثقلة..

    بدأنا نقترب من سامراء.. اقتربنا أكثر.. ملامح المدينة باتت واضحة. ولكن علينا الانتظار مجددا لبعض الوقت، عند جسر الثرثار، الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال، وليس لنا بد من المرور من هناك. فهو المنفذ الوحيد، الذي يمر منه القادمون من بغداد إلى “سر من رأى”، كأنه السراط.. أسلحة مشهرة، وأيد على الزناد، والمغلوبون على أمرهم ليس لهم إلا الانتظار، حتى يأتيهم الدور فيمرون، يسألون الله السلامة ورحيل المحتلين.

    أنت في “سر من رأى”

    عندما تدخل سامراء، وتجتاز جسر الثرثار، حيث الماء يحيط بك من الجانبين، عال ومنخفض، في منظر بديع رائق، ليس لك إلا أن تنظر بعين الإعجاب إلى مرقد الإمام علي الهادي.. قبة ذهبية عظيمة، قال لي بفخر واعتزاز، كل من سألته عنها، إنها أكبر قبة ذهبية في الشرق الأوسط بأسره. وقريبا منها تنتصب منارة ذهبية أخاذة بالألباب، تلقي بشيء من ظلها، بعد أن مالت الشمس قليلا عند العصر، على القبة العظيمة، كأنها تعانقها برفق، ترفض المسافة التي تفصل الواحدة منهما عن أختها، وتوأم روحها.

    وقد قال لي القائمون على المقام، الذين غمروني بدفء حديثهم، وترحيبهم الحار، إن المقام، الذي بني منذ عهد المعتصم العباسي، يرقد فيه الأئمة علي الهادي، ونجليه الحسن العسكري وجعفر الزكي، ونرجس خاتون، وحليمة خاتون، وإحداهما زوجة الإمام علي الهادي، والأخرى زوجة نجله الحسن.

    ثم يشير لي ضابط الأمن في المقام، مجيد فاضل الصياد، وهو سني من أهل سامراء، وكان دليلي السياحي، خلال الجولة الممتعة، إلى سرداب ممرد من قوارير، له مدخل ومخرج، يقود سلّم أحدهما نزولا إلى غرفتين صغيرتين، يقول لي الدليل إن إحداهما هو المكان، الذي كان يتعبد فيه صاحب الزمان، الإمام المهدي المنتظر، نجل الإمام الحسن العسكري، والثاني هو مكان الغيبتين الصغيرة والكبيرة، لصاحب الزمان، وقريبا منه يكون باب الخروج إلى أعلى، وهو باب استحدث في العام 1999.

    وقريبا من مكان التعبد والغيبة، لصاحب الزمان، توجد القبة الذهبية الضخمة، التي تظلل المقام، ويقود إليها “باب العسكري”، كما هو مكتوب على مدخلها الآن، وكان يطلق عليه، قبل أشهر معدودات، اسم “باب القائد” (صدام حسين).. الأبواب والجدران والمقام منظر آية في الجمال.. لوحة ساحرة تأخذ بالعقول.. زخرفة باهرة، وما يشبه الفسيفساء، كبيرة القطع، من المرايا المتعاكسة الأخاذة، رتبتها أيدي فنانين ومهندسين عراقيين، بشكل فني بديع.. ألوان جميلة متناسقة، وأشكال في غاية الروعة ورفعة الذوق والبهاء.. ويحيط بكل شي في المقام العظيم سور ضخم، من الجهات الأربع، وقد زخرف بألوان وصور وكتابات غاية في الجمال.

    أعداد هائلة من نساء متشحات بالسواد، ورجال كثر، لا يتكلمون العربية، معظمهم من إيران، كما بدا لي، يقبلون الجدران، ويتمسحون على الأعتاب في انكسار وذلة وخشوع، والألسن تلهج بالدعاء. وكثير من الأدلاء والموظفين العاملين في المقام العظيم، وأغلبيتهم الساحقة من أهل السنة، يسلمون بكل الإجلال والاحترام على الأئمة النائمين بهدوء في المقام الضخم، الذي جدده وأنقه “السيد الرئيس القائد المجاهد”، الذي بات أسيرا في أيدي قوات الاحتلال، إذ تقول لوحة على مقام الغيبة “تنفيذا لأمر السيد الرئيس القائد المجاهد (……) قامت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، دائرة الهندسة والتخطيط، بصيانة وتطوير الغيبة، وفتح مدخل جديد، سنة 1419 هجري، 1999 ميلادي”. وقد محي اسم الرئيس العراقي السابق صدام حسين من اللوحة، بعد سقوطه من الحكم، في حين بقي سائر النص كما كان.

    بعد مقام الإمام علي الهادي، اتجهنا مباشرة إلى منارة الملوية، ومسجدها الضخم العظيم.. منارة هائلة تناغي السماء، أقيمت على شكل مخروطي، تصعد إلى السماء، صعودا حلزونيا بديعا، يكشف عن عبقرية هندسية، وعن تقدم هائل في فن البناء لدى الجدود. وقد أقيم الجامع ومنارته في عهد الخليفة المعتصم، كما تشير لافتة كبيرة في المكان، وذلك بين عامي 221 و227 هجرية. وحين ضاق الجامع بالمصلين وسّعه الخليفة، وبناه على شكله الحالي.

    ويبلغ طول الجامع 240 مترا، في حين يبلغ عرضه 160 مترا، ويرتفع جداره لعلو 10 أمتار. أما عرض الجدران الضخمة المقامة من الآجر والجص، فيبلغ 2,65 مترا. ويدعم هذه الجدران الضخمة من الخارج 44 برجا. ويقع محراب الجامع في منتصف الضلع القبلي، وعلى طرفيه بابان، كانا يؤديان إلى بناية صغيرة، خلف المحراب، كانت مخصصة لاستراحة الخليفة. وفي جدران الجامع الأعظم 21 بابا.

    وعلى بعد 21 مترا من الضلع الشمالي للجامع الأعظم، تقع منارة الملوية، وهي منارة بالغة الروعة والضخامة، تناغي السماء ارتفاعا، تصعد إلى السماء ملتوية، على شكل حلزوني. وهي بناية من طراز فريد، قائمة على قاعدة مربعة، يبلغ ضلعها 33 مترا. ويُرقى إليها بسلم، عرضه 2,30 مترا، يدور حولها من الخارج، ثم مرقاة في نهايتها، تنتهي بغرفة يبلغ ارتفاعها 6 أمتار. ولها باب صغير في جهتها الجنوبية. ويبلغ ارتفاع الملوية، التي اتخذت شعارا لمدينة سامراء، وترى شكلها مرسوما على اللوحات الإشهارية في كل مكان، 52 مترا، عن سطح الأرض.

    لكن الملوية وجامعها العظيم مهجوران، بخلاف قبة الإمام علي الهادي، التي تغص بالحركة والنشاط. ولا يرتادهما سوى نفر قليل من السواح وبعض شباب المدينة. وقد صعدتها بجهد جهيد، على خوف من السقوط، ورعشة في الركبتين، في ظل رياح تتزايد قوتها، كلما صعدت إلى أعلى. ومن فوقها أشرفت على المدينة، التي بدت لي نائمة قريبا من الغروب، عند حضن دجلة الحنون.

    وقال لي عراقيون كثر من أهل المدينة ومن غير أهلها، إن الأهالي يسعون، منذ سنوات، لتعمير الجامع الأعظم، لكن السلطات حالت دون ذلك، رغم أنها كانت قد فرضت في الأعوام الثلاثة الأخيرة من عمرها، ضريبة على كل عراقي، يدفعها جبرا، من أجل تعمير الجامع، الذي ظل جدرانا بلا سقف، مهجورا لا يرتاده إلا القليل للسياحة والاعتبار.

    وفي سامراء قصور عظام من آثار الخلافة العباسية. وأشهرها قصر الحير، وقصرا العاشق والمعشوق. وهما قصران للخليفة المعتصم ولزوجته. وفي القصور برك وبحيرات وزخارف وفنون هندسية مدهشة، وبقايا قنوات يجول فيها الماء البارد صيفا، فيضفي مسحة من برد اليقين على ساكنيها، ويجول فيها الماء الساخن شتاء، فيجعل تلك القصور دافئة يطيب فيها المقام، قبل أن تخترع أدوات التدفئة المركزية. وهو ما يكشف عن عبقرية أبناء حضارة حكمت هذه الأرض وأرض كثيرة غيرها، قرونا مديدة من الزمان.

    سامراء والمقاومة والإهمال

    أما اليوم فباتت سامراء خاضعة للاحتلال. ولا يسرّ حالها من يراها، أو من يسمع ذكرها في الآفاق. مدينة تشكو من البطالة، التي تكتسحها اكتساحا. وقد روى لي الكثير من شبابها كيف يقضون زهرة شبابها، وأيام أعمارهم، في انتظار القادم المجهول، يأملون خيرا لم يروه حتى الآن. كما شكوا من كثرة الاعتقالات، التي تكاد تطال كل بيت فيها. ومن إغلاق شركات أو معامل أو مدارس تضم المئات، لا لسبب سوى أن اسمها يذكّر بالعهد السابق.

    عمارات ضخمة، لازال أثر الرصاص باديا عليها، من بقايا المواجهات بين رجال المقاومة وقوات الاحتلال.. شوارع تأكلها الأوساخ، ومجاري المياه العكرة السوداء تنساب في المدينة.. طرق محفّرة، كأنك على أرض وحلة بين الوديان.. السيارة تهتز بنا كأن بها جان أو أصابها مس من جنون.. حتى صارت تحتاج إلى دفعة من الأهالي ليعمل محركها، إذا أسكتناه لبرهة، لسؤال الناس عن أحوال مدينتهم.. الوجوه حزينة، وكأنك في مدينة لم يطلق عليها يوما اسم “سر من رأى”، إذ لم تعد هذه المدينة تعرف للسرور سبيلا.

    أهل المدينة يذكرون لعلي حسن المجيد، أو “علي الكيمياوي”، وهو من رموز العهد السابق، أنه تمنى لو يقطع عن سامراء الماء والهواء، حتى يموت أهلها، ويرتاح منهم. لكن الناس في المدينة لا يظهرون الشماتة في النظام المنهار ورموزه، الذين بات كثير منهم أسرى، بعد أن صار الزمان غير الزمان، ودارت الدوائر، ودالت دولة وانهد بنيان.

    وقال لي العديد من الأهالي إن الأمريكان اتخذوا 4 معسكرات في المدينة عقب احتلالها، وأن المقاومة نجحت في إخراجهم من 3 منها. لكن العمليات هدأت في الآونة الأخيرة، في سامراء، بعد دعوة هيئة علماء المسلمين إلى عدم استهداف قوات الاحتلال في المدينة، حتى لا يردون، فيصيبوا الأهالي بين قتيل وجريح. لكن المقاومة لم تهدأ في أطراف عاصمة المعتصم. وترد قوات الاحتلال بشن حملات الاعتقال بين أبنائها، كلما جرى استهدافها.

    وحين كنّا نودع المدينة ليلا، عائدين إلى بغداد، قطعت أكثر من 15 دبابة الطريق علينا، وبدأت حملة تمشيط في المدينة.. عشرات الجنود ينتشرون في الشوارع.. السلاح في الأيدي، والأصابع مشدودة على الزناد، في مشهد يثير الكثير من الرعب والخوف، وخاصة لدى الأطفال.

    نحن لا نحب الأمريكان

    يجمع أهل المدينة على بغض الأمريكان وكرههم. وقال لي شيخ عشيرة، بدا لي مثقفا، مطلعا على تاريخ المدينة ومعالمها وواقعها بدقة مثيرة، إن “الناس لا يحبون الأمريكان.. لا أحد يرتاح لهم.. الجميع يعتبرهم مجرمون محتلون”. وأضاف محاولا تفسير ذلك بالقول إن “دخولهم المدينة قد يكون السبب.. لو كانوا خارج المدينة، فربما خفت العداوة تجاههم”، مشيرا إلى أن أهل سامراء محافظون متدينون، لا يقبلون ما يقوم به الأمريكان ضد محارمهم وعوراتهم.

    وقال لي المهندس محمد جميل، وهو مهندس يبلغ من العمر 26 عاما، إن المدينة “كانت من قبل ومازالت تفتقد إلى كل الخدمات المدنية، التي تخص المباني والشوارع.. كانت مهملة سابقا، والآن يتعمدون إهمالها”. وحين سألته عن تفسيره لذلك الإهمال، أجاب قائلا “لا تسألني عن الأسباب، لأن هذا شيء أكبر مني”، ثم أضاف “السبب المقاومة.. السبب غير المقاومة.. أنا لا أعرف السبب بالضبط”.

    وقال “كانت في سامراء مقاومة إلى أن جاءت عاصفة اللبلاب.. ففيها لم يتركوا (الأمريكان) حرمة لمنزل، ولا لمدرسة، ولا لجامع.. حتى الجوامع دخلوها.. جامع الحي الصناعي دخلوه، وسرقوا خزنته، ومزقوا المصاحف، ورموا بها على الأرض”. وقال إن العلماء دعوا لوقف العمليات في المدينة، لإزالة “حجة الأمريكان في الاعتداء على الناس”. وأضاف “نفس الوضع لا يزال كما كان.. الدمار موجود في كل مكان.. نتيجة ماكو”.

    وأشار إلى أنه حضر اجتماعا، بصفته مهندسا، قُدمت فيه خطة، بلغ تمويلها أكثر من ملياري دينار، لإصلاح حال المدينة، إلا أن ما وصل المدينة هو 200 مليون دينار فقط، كما قال، مشيرا إلى أن الاستجابة بلغت نسبتها 1 من 10. وأضاف يقول “سامراء محتاجة إلى تبليط 58 كلم من الشوارع، لكن ما أعطي لنا لا يبلط 300 مترا”، مؤكدا أنه “لم تخصص أموال لحل مشكلة المجاري، التي تعكر حال المدينة، ولا لحل مشكلة الكهرباء، وقالوا لنا انتظروا 6 أشهر، لعل شيئا جديدا يأتي، وها نحن ننتظر”.

    وتساءل المهندس جميل “أين مجلس الحكم” (الانتقالي في العراق)؟. وأجاب بأنه “مشغول بنفسه ومصالح أعضائه”. وقال “لم نستفد شيئا سوى أننا صرنا قادرين على نقد المسؤولين.. لكننا فقدنا الأمن.. والغلاء صار فاحشا.. الأثمان تضاعفت ثلاث مرات. أما أثمان المواد الإنشائية فتضاعفت 7 أو 8 أضعاف”، كما قال.

    أما ضابط الشرطة مصطفى حميد، وهو يبلغ من العمر 40 عاما، فقال إن سامراء شهدت عمليات كثيرة ضد القوات، التي أطلق عليها مرة اسم قوات التحالف، وأخرى اسم قوات الاحتلال. وقال إن العمليات كانت ناجحة في بعض الأحيان، وكانت عشوائية في أحيان أخرى، أدت إلى حدوث خسائر بين الأهالي، وفي الممتلكات العامة، “كما أدت إلى وقوع خسائر في قوات التحالف”، مشيرا إلى أن الأوضاع بدأت تهدأ، وأن علماء الدين كان لهم التأثير الأكبر في ذلك، لحماية أهل المدينة. لكن بعض الحاضرين، الذين تحلقوا حولنا أشاروا إلى أن العمليات، لازالت تجري خارج المدينة، وأن قوات الاحتلال لا تعلن عن خسائرها فيها.

    وحين سألت الجمهرة من حولي عن تفسيرهم لأسباب قلة الشعارات المؤيدة للمقاومة في المدينة، أجابني شاب، قال إن اسمه عامر، وإن عمره يبلغ 23 عاما، وسطع صوته قويا، من بين الأصوات المتناثرة المبحوحة، بأن الشعارات موجودة، وأن قوات الاحتلال لا تعمد إلى محوها من على الجدران، وإنما تعمد إلى تدمير الجدران ذاتها، مشيرا إلى كثرة الاعتقالات، في صفوف الأهالي، ذاكرا من بين المعتقلين القيادي الإسلامي عبد الكريم السامرائي، الذي قال إنه كان قد حكم عليه بالإعدام في عهد الرئيس السابق صدام حسين، واعتقلته قوات الاحتلال مجددا. وذكر لي بعض الأهالي أن أحد أشهر المعتقلين من أبناء المدينة هو مصور قناة الجزيرة الفضائية صهيب السامرائي، الذي قيل لي إنه قد عذب تعذيبا شديدا من قبل قوات الاحتلال.

    سامراء حزينة.. لم تعد تسرّ صديقا، ولا تغيظ عدوا.. معالمها الأثرية وحدها لا تزال جميلة خلابة، لكن شوارعها وأحياءها باتت وسخة قذرة موحلة، تفتقد لمسة الجمال والبراعة، التي ميزت الجدود والبناة الأوائل.. لقد كانوا سادة يحكمون شطرا عظيما من الدنيا. أما أبناء هذا الزمان، فلا يكفّون، وهم المحتلة أرضهم، والمنتهكة سيادة بلدهم، يأملون في غد مشرق، أفضل من حاضر، كعدو يتجهمهم، وعسى الفرج يكون قريبا.

    _________________________________________________________________

    #492491

    حيا الله السوامره

    #492580

    حي الله نباك ياطويل العمر

مشاهدة 3 مشاركات - 1 إلى 3 (من مجموع 3)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد