الرئيسية منتديات مجلس الفقه والإيمان الأباضية الناصعة

مشاهدة 5 مشاركات - 1 إلى 5 (من مجموع 5)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #21023
    بحبوح
    مشارك

    إن المرء ليتساءل عن السبب الذي دعا أحد الخطباء أن يقول على المنبر” لا تقتلوا اليهود والنصارى بل اقتلوا الإباضية أولا فإنكم إن قتلتموهم فكأنكم قتلتم اليهود والنصارى” . وقال آخر : ” إذا أردتم أن تحرروا القدس فاقتلوا الإباضية .” فبأي حق يستبيح هؤلاء دماء مسلمين موحدين ؟ لاختلافهم في تأويل بعض الآيات والأحاديث بما يخالف رأيهم ومذهبهم ، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم ) :” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله”.

    ولا ندري لمصلحة من يتم كل هذا؟ ماذا تستفيد أمة الإسلام في هذا العصر من إثارة الفتن والكتابة عنها ونشرها بعد أن بدأت الدعوة إلى توحيد المسلمين والرجوع إلى الكتاب والسنة؟
    إنّ إنصاف الإباضية، أو على الأقل التزام السكوت عن القضايا الخلافية هو الأمر العملي والواقعي والصحيح الذي يجب أن يدعو إليه كل مسلم، فالعمل المطلوب في الظروف التي تمر بها الأمة المسلمة الآن هو الدعوة إلى توحيد المسلمين على اختلاف أفكارهم ومناهجهم، للوقوف صفا واحدا أمام العدو المشترك للمسلمين والذي يتمثل في الصهيونية العالمية والنصرانية الحاقدة والعملاء والمنافقين في داخل أمة الإسلام وخارجها الذين لن يرضوا إلا بان تنقسم أمة الإسلام. فلماذا نسمح لهم بذلك؟ ونهيئ لهم السبل ونسهل عليهم الطريق بوصف فرقة من فرق المسلمين بأوصاف لا أصل لها ولا معنى لها في واقع الحال

    ومن أسباب تنزيل هذا البحث :

    أولا – الجهل بحقيقة الإباضية: رغم أن المنتسبين إلى الإباضية يعيشون في الكثير من البلدان الإسلامية مع إخوانهم المسلمين حياة أخوة وصداقة وعمل، إلا أن اغلب المسلمين حتى الذين يعيشون معهم في بلد واحد لا يعرفون عن الإباضية إلا القليل وقد يكون ما عرفوه مخالفا للحق ومجتنبا للصواب. أما الذين لم يتصلوا بالإباضية ولم يتعاملوا معهم فان بعضهم لم يسمع بالإباضية مطلقا و كثيرا ممن سمع أو قرأ عنهم فإن معلوماتهم عن الإباضية مشوشة لأنهم استمدوا هذه المعلومات ممن نقلوا عن كتب أُلفت في فترة كان التعصب المذهبي على أشده وكانت وسائل الاتصال محدودة كما أن إمكانيات الناس لم تسمح لهم بالانتقال والبحث للتأكد مما يكتبون أو يقولون. فكانت نتيجة ذلك عزل الفكر الإباضي عن بقية الأمة . فوصلت إلى أسماع الناس معلومات خاطئة نقلوها إلى من جاء بعدهم – شفاهة أو كتابة – فوصلت إلينا صورة مشوهة باهتة عن الإباضية.

    ثانيا – عدم إنصاف الكتاب للإباضية: أغلب من يكتب عن الإباضية لا ينصفهم ولا يعرف حقيقتهم، لأنه لا يفقه، ولا يعي الدور والظروف التي نشأ فيها المذهب الإباضي، ولا التطورات التي مر بها، ولا الملابسات التي اكتنفته ولا الخصوصيات التي تميزه. وقد لاحظنا في كثير من الكتابات تأويلات واستنتاجات خاطئة، لا تمت إلى الإباضية بصلة. فكثير من المصادر والمراجع غير الإباضية لا تتحدث، ولا تسجل سوى النزاعات والثورات والمؤامرات، والمناوشات، بينما الجوانب الدينية والثقافية والاجتماعية قليلة الورود في هذه الكتابات .

    (لقد ظلم الإباضية قديما وحديثا من قبل إخوانهم المسلمين . ففي القديم ظلمهم كتاب المقالات في العقائد، واعتبروهم من الخوارج وألصقوا بهم عددا من الشنائع والمنكرات لا علاقة لهم بها، ونسبوا إليهم كل ما ينسبونه إلى الخوارج من أعمال العنف ، وغلظة الطبع ، وجفاء البداوة ، وشذوذ المعاملة، وجمود الفهم .
    ولم يكتف بعض المؤرخين بنسبة الإباضية إلى الخوارج بل إنهم قسموهم إلى عدد من الفرق ثم جعلوا على كل فرقة منهم إماما ، ونسبوا إلى كل إمام جملة من الأقوال كافية لإخراجه من الإسلام . ولا أصل لتلك الفرق ولا لأولئك الأئمة، ولا لمقالاتهم عند الإباضية، بل يبرئون ممن يقول ذلك. وكان من نتيجة هذا الظلم أن أصاب الإباضية من كتاب المقالات الكثير من الأذى قد لا يكون مقصودا لكنه واقع، وقد أحدث بالفعل فجوة بينهم وبين إخوانهم في بقية المذاهب، كانت متسعة وبدأت تضيق . ونرجو أن تنكمش وتزول في هذا العصر الذي يجب أن يتلاقى المسلمون فيه على وحدة العقيدة، ووحدة العمل، ووحدة السلوك في مجابهة أعداء الإسلام مع مراعاة صادقة لحرية الرأي والفكر، واحترام كامل لجميع العلماء السابقين).
    إن الوقت لم يحن بعد ليقتنع كل المسلمين بالفكر الإباضي ذلك لأن قدرا كبيرا من التعتيم يمارس على الفكر الإباضي من قبل أناس جعلوا أنفسهم أوصياء على الإسلام يفسقون ويكفرون ويبدعون من يشاءون دون دليل ودون تثبت .

    و حين يصل المسلمون إلى قدر من الوعي يمكنهم من قبول الرأي المخالف بصدر رحب ، ويقبلون النقاش في أحداث التاريخ الإسلامي نقاشا علميا وموضوعيا بغية الوصول إلى الحقيقة دون تعصب إلى رأي أو مذهب ، عندها سيجد المسلمون في الفكر الإباضي ما يمكن الاستفادة مما فيه لخير وصلاح الأمة الإسلامية خاصة والبشرية عامة .

    يتبع …………..ز

    #438601
    بحبوح
    مشارك

    من هم الإباضية – بقلم. د عمرو خليفة النامي

    القليل جدا من المسلمين من يعرف حقيقة الإباضية، عقيدة ومذهبا وسلوكا، ذلك لأن عامة ربما لم يسمعوا عن الإباضية قط، أو يكون سمع عنهم أخبارا مشوشة أو مقتضبة، أما المثقفين منهم فقد كانوا – ولا زال كثير منهم – ينظرون إلى الإباضية على أنهم خوارج ومتطرفين ومبتدعة، ولذلك فهم لم يعيروا أي اهتمام جدي لدراسة الفكر الإباضي حتى يكونوا صورة واضحة عن المذهب الإباضي ينقلوها إلى عامة المسلمين ولا شك أن هناك أسباب عديدة ليس هذا مكانها ولكن قد تتضح من خلال المقالات الأخرى.

    سنتعرف على الإباضية من عدة مقالات ونبدأ بمقال الدكتور عمرو خليفة النامي:

    من هم الإباضية؟؟

    يقول الدكتور النامي في مقدمة تحقيقه لكتاب أجوبة ابن خلفون: 9-12:

    يرجع المذهب الإباضي في نشأته وتأسيسه إلى عصر التابعين؛ فمؤسسه الذي أرسى قواعد الفقه الإباضي وأصوله هو التابعي الشهير: جابر بن زيد الأزدي فهو إمام محدث فقيه، من أخص تلاميذ ابن عباس، وممن روى الحديث عن أُمِّ المؤمنين عائشة (ض) وعدد كبير من الصحابة مِمَّن شهد بدرا، كان إماما في التفسير والحديث، وكان ذا مذهب خاص به في الفقه، ولد سنة 21 للهجرة، وكان أكثر استقراره بالبصرة وبها توفي سنة 93 للهجرة. [ولم ينسب إِلَيهِ المذهب وَإِنَّمَا نسب إلى عبد الله بن إباض وهو تابعي أيضا عاصر معاوية وتوفي في أواخر أَيَّام عبد الملك بن مروان فهي نسبة عرضية كان سببها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها، فنسب المذهب الإباضي إِلَيهِ،ولم يستعمل الإباضية في تاريخهم المبكر هذه النسبة، بل كانوا يستعملون عبارة “جماعة المسلمين” أو أهل الدعوة” وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة الإباضية كان في أواخر القرن الثالث].

    وقد توزع علم جابر بن زيد في روافد كثيرة، لَعَلَّ أخصبها وأثراها ما أثره عنه تلاميذه الذين انتشر المذهب على أيديهم، أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي، وضمام بن السائب وغيرهم. وقد تَمَّ تدوين ذلك الفقه في فترة مبكرة، فكان جابر بن زيد نفسه مِمَّن يستعمل الكتابة والمراسلة فكتب بأجوبته إلى تلاميذه وأصحابه…، [وقد حفظ لنا التاريخ شيئا منها إلى اليوم ]. واستكتب بعض زملائه من التابعين مثل عكرمة مولى ابن عباس في بعض المسائل. والذي بين أيدينا من روايات ذلك الفقه المبكر: كتاب روايات ضمام، وفتيا الربيع بن حبيب، وكتاب النكاح لجابر بن زيد، وكتاب الصلاة له، وكثير من الروايات عن تلميذه عمرو بن هرم وعمرو بن دينار، بالإضافة إلى حديثه الذي جمعه الربيع بن حبيب في مسنده الصحيح. فالمذهب الإباضي بالنظر إلى تأسيسه ونشأته من أقدم المذاهب الفقهية الإسلامية وهو نتاج مدرسة العراق والبصرة خصوصا.

    على أنَّه وإن تأثر بمدرسة العراق فاستخدم علماؤها الرأي والقياس أيضا على تردد من بعضهم خصوصا جابر بن زيد وأبا عبيدة، إلاَّ أنَّ تأسيسه على يدي جابر وهو محدث صاحب آثار جعل منهجه يطبع فقه المذهب ويغلب عليه، ويحد من تأثير مدرسة الرأي، التي عظم خطرها في العراق.

    على أنَّ اتساع دائرة المذهب الإباضي كدعوة إسلامية سياسية عامة جعل المذهب لا يكسب طابعا خاصا يغلب عليه مدرسة بعينها أو ينسب إلى مدينة بعينها كالبصرة، فَإِنَّ الباحث يتردد كثيرا قبل أَن يرسل حكما عاما يربط فيه المذهب بمركز التجمع الإباضي في البصرة، فقد كانت تجمعات مماثلة في كل من الكوفة ومكة والمدينة وخراسان عرف منها علماء بارزون مختارون، سجلت أقوالهم في الآثار المبكرة لعلماء الإباضية.

    واكتملت صورة المذهب وتم تحرير أقواله وآرائه في صورتها النهائية في أواخر أَيَّام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة، الذي خلف جابر بن على إمامة أشياخ المذهب في البصرة، وهي مركز التجمع الأساسي لعلماء الإباضية؛ حتَّى قرابة نهاية القرن الثالث. وعنه حمله طلبته الذين وفدوا عليه من المغرب والمشرق إلى بلدانهم، التي أضحت (من بعد) مراكز لدول إباضية، لعبت دورا سياسيا خطيرا، في كل من جنوب الجزيرة وشرقها (اليمن، وحضرموت ثُمَّ عمان وفي شمال إفريقيا.. ليبيا، تونس، الجزائر).

    وقد عرف هؤلاء التلاميذ باسم خاص تطلقه عليهم كتب السير والطبقات الإباضية هو اسم: “حملة العلم”.

    وبجهود حملة العلم تأسست دولة الإباضية في شمال إفريقيا، فكان إمام الظهور الأوَّل لهذه الدولة هو: أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري أحد حملة العلم، وقد بايعه أصحابه بالإمامة في منطقة “صياد” قرب بلدة زنجور في طرابلس سنة 140 الهجري، ولعب دورا هاما في سياسة المنطقة في فترة قصيرة، التي حكمها أَيَّام ملك العباسيين. ثُمَّ بعد حروب متصلة بين جيوش الدولة العباسية وجموع الإباضية في المغرب، أفلح تلميذ آخر من تلاميذ أبي عبيدة وأحد “حملة العلم” وهو عبد الرحمن بن رستم الفارسي في تأسيس الدولة الإباضية بتاهرت، والتي استمرت قرابة مائة وعشرين سنة (120 سنة) وازدهرت مع ازدهارها، وما هيأته من ظروف الاستقرار حركة علمية ممتازة في كل من جبل “نفوسة” و”تاهرت” تركت ثروة علمية واسعة ذات قيمة جليلة، وبعد سقوط الدولة الإباضية في تاهرت احتفظت التجمعات السكانية الإباضية بنوع من الاستقلال الديني والسياسي، مكنها في متابعة تلك النهضة العلمية التي تقوم على رعايتها مجالس العلماء، التي عرفت في اصطلاح الإباضية “بمجالس العزابة”، فاتصل الإنتاج العلمي بين إباضية المغرب في مختلف العلوم الإسلامية حتَّى أَيَّامنا هذه.

    وَلَعَلَّهُ من الإنصاف أَن نقرر هنا حقيقة هامة .. هي أنَّ المذهب رغم تلك الجفوة التي اصطنعتها ظروف السياسة في تاريخ الأمة الإسلامية بينه وبين سائر مذاهب الأمة.. يمثل في واقعه أقرب صورة إلى حقيقة الإسلام الأصيل، في عقائده وفقهه ومسلك أتباعه، ويتميز تاريخه الطويل بذلك الصراع المتصل لإقامة وجود سياسي للعقيدة الإسلامية، ممثلا في إمامة العدالة في حال الظهور، أو في السعي المتصل لإقامتها في مسالك الدين الأخرى في أطوار “الدفاع” أو “الشراء” أو “الكتمان”.

    ونحن نطمع أَن يكون نشر آثار الإباضية دافعا لعلماء الأمة للتدبر في فقه المذهب الإباضي، ووضعه في مكانه الصحيح الذي يُقَوِّي الجماعة، ويوحد صفوفهم، ويلُمُّ شعثَ المسلمين في عصرٍ هم أحوج ما يكونون فيه إلى وحدة صفوفهم، ورصد قوتهم لصد طغيان الطاغوت المتربص بهم في الداخل والخارج.

    #439351
    بحبوح
    مشارك

    في الوقت الذي كان الخوارج المتطرفون يقومون بثوراتهم وحركاتهم ضد الأمويين وولاتهم ويتعرضون من جراء ذلك للقتل والتشريد ويواجهون السخط والاستنكار من قبل السكان، كانت هناك جماعة انبثقت بعد معركة النهروان واتخذت من مدينة البصرة مقرا لها، وآثرت السلم وعدم اللجوء إلى السيف أو العنف لفرض آرائها. وقد تزعم هذه الجماعة أبو بلال مرداس بن أدية التميمي، وكونت هذه الجماعة البذرة التي أنتجت بما عرف فيما بعد في التاريخ الإسلامي بالفرقة الإباضية. وكان زعيم هذه الفرقة – قبل أن تُعرَف بالإباضية – هو أبو بلال مرداس بن أدية التميمي.

    أبو بلال مرداس بن حدير

    هو مرداس بن حدير ويكنى بأبي بلال. ينتمي إلى قبيلة بني تميم التي كان يتزعمها الأحنف بن قيس، وقد شهد معركة صفين مع الإمام علي هو وأخوه عروة وفارقه مع أهل النهروان بعد التحكيم وكان من العدد القليل الذين نجوا من القتل في معركة النهروان. قال عنه ابن الأثير: (كان مرداس عابدا مجتهدا عظيم القدر وكان لا يدين بالاستعراض ويحرم خروج النساء ويقول لا نقاتل إلا من قاتلنا)[2].

    ويظهر أنه لم يكن مرتاحا لما حدث من خلاف وفتنة بين المسلمين وصعق لِما حل بأصحابه من قتل وتشريد على أيدي إخوانه المسلمين ورأى أن القتال بين أتباع العقيدة الإسلامية أمر لا يصح, فانسحب مع نفر من أصحابه وأقام بالبصرة تحت حماية الأحنف بن قيس الذي كان يمتاز بحكمته وسداد رأيه، وفي ظل هذه الحماية أخذ أبو بلال ينشر آراءه وأفكاره مؤثرا طريق النقاش والإقناع بدلا من طريق الحرب الذي سلكه الخوارج، فدعا أتباعه ألا يجردوا سلاحا ولا يقاتلوا أحدا إلا إذا تعرضوا للعدوان فأنكر قتل المخالفين واستعراض الناس على طريقة متطرفي الخوارج. وكان مما ساعده في نشر أفكاره هو تسامح زياد ابن أبيه والي العراق في ذلك الحين معه ومع جماعته لأنهم لم يحاربوه كما فعل الخوارج. وقد أنكر الخوارج قعود أبي بلال وجماعته عن الثورة ضد ولاة الأمويين فلقبوهم – احتقارا – بالقعدة، أما أهل البصرة فكانوا يسمونهم الحرورية[3]، نسبة إلى حروراء.

    وقد نشط أبو بلال في البصرة لنشر دعوته وأفكاره وكان يعقد المجالس والمناظرات لإقناع الناس بآرائه، فانضم إليه عدد كبير من الناس وازداد عددهم حتى بنوا مسجدا خاصا لهم بالبصرة[4]. وبلغ من حسن سيرته أن جميع الفِرق التي خرجت على الدولة الأموية تتولاه بما فيهم الأزارقة والنجدات والشيعة، ولعل ذلك يعود إلى أن تلك الفِرق جميعا كانت هي التي تسمى بالمحكمة قبل أن تنقسم.

    كان أبو بلال ملازما لجابر بن زيد يأخذ من علمه ويستشيره في أموره ولا يقطع شيئا دونه حتى قيل أنه ما كان يصبر على فراقه فقد كان من تشوقه إليه أنه يخرج من عند جابر بعد العشاء ويأتيه قبل صلاة الصبح فيقول له جابر لقد شَقَقْتَ على نفسك فيرد عليه أبو بلال : والله لقد طال ما همت نفسي بلقاك شوقا إليك حتى أتيتك. وهذا يبين مدى الصلة الفكرية والروحية التي كانت تربط أبي بلال بالإمام جابر ويذكر مؤرخو الإباضية أن أبا بلال كان لا يبرم أمرا إلا بمشورة الإمام جابر.

    وعندما تولى عبيد الله بن زياد إمارة العراق سنة 55 للهجرة اتبع سياسة جديدة مختلفة عن سياسة والده تجاه القعدة فاشتد في طلب الخوارج واستعمل القسوة مع كل المعارضين سواء كانوا من القعدة أو من الخوارج ورفض الشفاعة في أي واحد منهم، ورغم كل هذا كان أبو بلال يقول كلمة الحق ولم يخش في الله لومة لائم.

    يقول الدرجيني في الطبقات: (ثبت عندنا من طريق صحيح أن أبا بلال رحمه الله كان في المسجد الجامع فسمع زيادا يقول على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء والحاضر بالغائب والصحيح بالسقيم. فقام رحمه الله فقال: قد سمعنا ما قلت وما هكذا ذكر الله إذ يقول (وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزايه الجزاء الأوفى)[5]. وإنك تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي)[6].

    كان من نتيجة ذلك أن سُجن أبا بلال قبل أن يُقتل أخاه عروة ثم أُطلق سراحه وربما كان سبب ذلك خوفه من إثارة بني تميم التي كان لها آنذاك وزن كبير في البصرة. ولكن هذا العفو لم يشمل أتباعه فاستمر في مطاردتهم وملاحقتهم ولم يفرق بين الرجال والنساء فقد ذكر المؤرخون أنه أتى بامرأة من أصحاب أبي بلال اسمها البلجاء (أو البثجاء) كانت مجتهدة في العبادة وكانت تذكر تجبر ابن زياد وسوء سيرته فقال لها أبو بلال: إن هذا الجبار قد ذكرك فتغيبي. قالت: (أخشى أن يلقى أحد مكروها بسببي. فأخذها ابن زياد فقطع رجليها ويديها ثم رمى بها في السوق)[7].

    واستمر ابن زياد في اضطهاد كل مخالفيه سواء كانوا من المحاربين أو من القعدة وكان يبث العيون والجواسيس لتعقبهم وملاحقتهم ثم حبسهم أو قتلهم. وتمشيا مع هذه السياسة اضطر أبو بلال وأصحابه إلى التخفي فكانوا يعقدون اجتماعاتهم سرا للنظر في أمورهم وقد ذكر المؤرخون أنهم كانوا يأتون إلى المجالس متشبهين بالنساء أحيانا ومنتحلين صفة الباعة المتجولين أحيانا أخرى.

    كان من نتيجة الاضطهاد الذي مارسه عبيد الله بن زياد ضد المسلمين أثره الكبير في نفس أبي بلال فقرر أن يترك البصرة إلى مكان آخر أملا أن يأمن شر ابن زياد وأن يدعو إلى فكره في مكان آخر فقال لأصحابه: (إنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفا ولا نقاتل إلا من قاتلنا). فخرج من البصرة وهو يقول:

    إني وزنت الذي يبقى ليعدله

    ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا

    من كان يرجو بقاء لا نفاد له

    فلا يكن حبه الدنيا له شجــنا

    تقوى الإله وخوف النار أخرجني

    وبيع نفسي بما ليست له ثمنا

    سار ومعه أربعون رجلا من أتباعه حتى نزلوا بآسك[8]، وقد أعلن أنه وأصحابه لن يخيفوا أحدا أو يجردوا سيفا ولا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال. ولكن ابن زياد لم يرتض هذا العمل من أبي بلال فأرسل إليه جيشا مكونا من أربعة آلاف رجل بقيادة عباد بن أخضر فقتلهم جميعا وكان ذلك في سنة 61 هجرية. وكان يقول قبل قتله:

    ماذا نبالي إذا أرواحنا خرجــــت
    ماذا فعـلتم بأجسـادي وأوصـالــي

    نرجو الجنان إذا طارت جماجمنا

    تحت العجاج كمثل الحنظل البالي

    إني امرؤ باعني ربي لموعـــــــده

    إذ القلوب هوت من خوف أوجالي[9]

    كان لمقتل أبي بلال صدى عميق في نفوس أصحابه وآثار نقمة شديدة ضد ابن زياد فقد كان بسلوكه وعمله واستشهاده المثل الأعلى لأتباعه فرثاه كثير من الشعراء منهم عمران بن حطان الذي قال فيه[10]:

    يا عين ابكي لمرداس ومصرعــه
    يا رب مرداس اجعلــني كمرداس

    تركتني هائما أبكـي لمرزأتــــي

    في منزل موحش من بعد إينـــاس

    أنكرتُ بعدك ما قد كنت أعرفه

    ما الناس بعدك يا مرداس بالناس

    وقال أيضا:

    لقد زاد الحيــاة إلي بغضـــــا

    وحبــا للخـــروج أبو بـــــلال
    أحاذر أن أموت على فراشــي

    وأرجو الموت تحت ذرى العوالي

    فمن يك همـه الدنيــا فإنــــي

    لها والله رب العـــرش قـــــال
    ولو أني علمت بأن حتــــــفي

    كحتــف أبي بــلال لم أبـــال

    بعد استشهاد أبي بلال تزعم عمران بن حطان القعدة وكان محدثا وعالما وفقيها وشاعرا[11]. فسار على منواله في نشر دعوته وكان مثله في إنكار الاستعراض وتحريم أموال المسلمين ودمائهم. وفي هذه الفترة احتل عبد الله بن الزبير البصرة، وشعر عمران وأتباعه بنوع من الأمن تحت حكم ابن الزبير فاتجه مع أتباعه للدراسة والتعمق في الدين والدعوة في هدوء وسكينة. واستمر ذلك حتى عاد العراق من جديد إلى حكم الأمويين وتولىّ الحجاج بن يوسف ولاية العراق. فاشتكى الحجاج إلى عبد الملك بن مروان من نشاط عمران وجماعته واستأذنه في التصرف تجاه عمران وأصحابه بحجة أن عمران قد أفسد عليه أهل العراق. وبذلك بدأت مرحلة جديدة من التضييق على الإباضية. فقام الحجاج بحبس عمران ثم أطلقه في محاولة لكسب القعدة والتفرغ لمحاربة الخوارج من الأزارقة والنجدات. وبعد خروج عمران بن حطان من سجن الحجاج حدث نقاش حاد بين شيوخ القعدة فكان فريق منهم يرى الثورة على الحكم الأموي وفريق آخر يرى الاستمرار في الدعوة بالطرق السلمية وانتهى الجدال والنقاش أن انقسمت القعدة إلى فرقتين : الصفرية وهم أتباع عبد الله بن الصفار وكانت ترى الخروج والثورة ولكنها لم تكفر من قعد كما فعل الأزارقة. والإباضية وهي التي فضلت الاستمرار في القعود والتربية والدعوة إلى أن يأذن الله. أما عمران فيبدو أنه قد استاء من النتيجة التي انتهى إليها الجدل بين جماعته وقرر ترك البصرة، وأخذ يتنقل بين أحياء العرب حتى استقر أخيرا في عمان حيث بقي هناك حتى مات رحمه الله[12].

    _______________________________________________

    نشأة الحركة الإباضية – عوض خليفات

    [2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ – الجزء الثاني ص.517 – ذكر أحداث سنة 59 هـ

    [3] عوض خليفات: نشأة الحركة الإباضية ص. 65

    [4] الأنساب للبلاذري – نقلا عن نشأة الحركة الإباضية لعوض خليفات

    [5] سورة االنجم : آية 37-41

    [6] الدرجيني: طبقات المشايخ بالمغرب – الجزء الثاني ص. 215

    [7] ابن الأثير: الكامل في التاريخ – الجزء الثاني ص.517 – ذكر أحداث سنة 59 هـ

    [8] آسك: بلد من نواحي الأهواز

    [9] الحارثي: العقود الفضية في أصول الإباضية –ص.117

    [10] المصدر الصابق

    [11] نشأة الحركة الإباضية – عوض خليفات

    [12] عوض خليفات: نشأة الحركة الإباضية- ص.74

    #439384
    sanfoor
    مشارك

    الحمد لله كفانا الرسول عليه السلام أمر هذا.

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ». الموطأ.

    #439409
    بحبوح
    مشارك

    الإمام جابر بن زيد – أبو الشعثاء

    يرجع المذهب الإباضي في نشأته وتأسيسه إلى عصر التابعين، فمؤسسه الذي أرسى قواعده وأصوله هو التابعي الشهير أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي وهو محدث وفقيه، وإمام في التفسير والحديث وهو من أخص تلاميذ ابن عباس، وممن روى الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعدد كبير من الصحابة ممن شهد بدرا.

    هذا هو مؤسس الإباضية. وأما ما اشتهر عند المؤرخين من نسبة الإباضية إلى عبد الله بن إباض التميمي الذي عاش في زمن عبد الملك بن مروان فهي نسبة عرضية سببها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها فنسبت الإباضية إليه من قبل الأمويين. والإباضية في تاريخهم المبكر لم يستعملوا هذه التسمية، وإنما كانوا يستعملون عبارة “جماعة المسلمين” أو “أهل الدعوة” وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة الإباضية كان في أواخر القرن الثالث الهجري ثم تقبلوها تسليما بالأمر الواقع.

    ويعتبر جابر بن زيد الإمام الأول للإباضية والمؤسس الحقيقي للفكر والمذهب الإباضي. وهو من أبرز علماء النصف الثاني من القرن الأول الهجري، فقد ولد ما بين عامي 18-22 هجرية في بلدة فرق في منطقة تسمى الجوف في نزوى عاصمة المنطقة الداخلية في عُمان وفيها نشأ وترعرع قبل أن ينتقل إلى البصرة لطلب العلم.

    شيوخه

    وفي البصرة أخذ يتزود بالعلم والمعرفة وخصوصا ما يتعلق بعلوم القرآن والحديث وما يتصل بهما وقد تتلمذ على أيدي كثير من الصحابة والتابعين وأخذ عنهم الحديث والتفسير واللغة والأدب. ومن أبرز الصحابة الذين أخذ عنهم عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله وغيرهم. اشتهر بالحرص الشديد في طلب العلم فكان يكثر من الأسفار في سبيل ذلك، وكان ينتهز موسم الحج للقاء الصحابة والعلماء، فقد ذكر الدرجيني[1] أنه كان يحج كل سنة، وكانت له ناقة سافر عليها أربعة وعشرين سفرة ما بين حجة وعمرة.

    عاش في زمن الحسن البصري وعمرو بن دينار، وكان صديقا حميما للحسن البصري حتى أنه سئل عند موته ما تشتهي قال (إني لأشتهى رؤية الحسن البصري قبل أن أموت) فجيء له بالحسن البصري.

    مكانته العلمية

    روى أبو نعيم في الحلية أقوالا لكثير ممن عاصروه تشيد بمكانته العلمية وزهده في الدنيا ومن ذلك ما قاله عمرو بن دينار وهو أحد علماء التابعين : (ما رأيت أحدا أعلم بالفتوى من جابر بن زيد)، وكان إياس بن معاوية وهو قاضي البصرة في عهد عمر بن عبد العزيز يقول : (أدركت أهل البصرة ومفتيهم جابر بن زيد). أما ابن عباس فكان يقول : (لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما عما في كتاب الله)، كما وصفه ابن عمر (أنه من فقهاء البصرة البارزين) بينما قال عنه قتادة: (إنه عالم العرب) . ويصفه أبو نعيم الأصبهاني بقوله : (كان للعلم عينا معينا، وركنا مكينا، وكان إلى الحق آيبا، ومن الخلق هاربا)[2].

    كما ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين بعد ما ذكر المفتين من الصحابة ذكر المفتين من التابعين فابتدأ بالمدينة وفقهائها، وثنى بمكة المكرمة وفقهائها ثم ثلّث بالبصرة وذكر من فقهائها المفتين جابر بن زيد[3].

    ولذلك يعتبر جابر بن زيد من أبرز علماء البصرة في عصره وأجمع علماء الحديث على عدالته وضبطه. فقد روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومجموعة من المفسرين. ووردت إشارات بمكانته العلمية عند السيوطي وابن حجر وقال عنه ابن تيمية بأنه أعلم الناس في زمانه.

    ونظرا لهذه المكانة العلمية لجابر بن زيد فلم يستطع أحد أن يقدح فيه إلا أن بعض المؤرخين أنكروا علاقته بالإباضية واستندوا على روايات ضعيفة أو مكذوبة تقول بأنه تبرأ من الإباضية قبل موته، واستند كل متحامل على الإباضية على هذه الروايات ليبعد الإباضية عن جابر بن زيد. ومنهم من قال بأن جابر بن زيد المحدث والتابعي المشهور غير جابر بن زيد شيخ الإباضية. وقد قام الدكتور عوض خليفات في كتابه ” نشأة الحركة الإباضية” بالرد على هذه الشبهات وتحليلها[4] وانتهى إلى القول : (بعد هذا العرض والتحليل يبدو أن إنكار جابر لعلاقته بالإباضية كما توردها بعض المصادر السنية إنما اخترعت من بعض رواة السّنة الذين يرون جابر شيخا جليلا ومحدثا ثقة، وبالتالي فيجب عدم إلصاق تهمة الإباضية به حتى يعتبر مجروحا، وخاصة أن نقدة الحديث قد رفضوا روايات “أصحاب البدع”، ثم قال يتضح مما سبق أن جابر بن زيد كان وثيق الصلة بالحركة الإباضية منذ وقت مبكر، وكان له دور كبير في تنظيم الحركة وتطورها[5].

    دور الإمام جابر السياسي والدعوي

    عاصر جابر بن زيد الظروف السياسية التي مرت بالأمة الإسلامية منذ الثلث الثاني من القرن الأول الهجري، فقد كان في سن الإدراك عندما حدثت الفتن بين الصحابة ابتداء من قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، ثم موقعة الجمل وصفين والتحكيم وعندما بدأ الخط الإسلامي ينحرف عن مساره الصحيح، بدأ في وقت مبكر يدعو إلى القضاء على بدعة الملك الأموي وإلى التمسك بنظام الشورى .

    توجد عدة روايات في كتب التاريخ الإباضي تشير إلى وجود علاقات متينة بين أبي بلال مرداس وجابر بن زيد حتى أن كثيرا من المصادر الإباضية تجمع على أنهما كانا قليلا ما يفترقان. وبعض الروايات تفيد أن أبا بلال كان لا يبرم أمرا إلا بعد استشارة جابر. فكانا يخرجان سويا إلى مكة ويلتقيان بابن عباس وعائشة أم المؤمنين. ويبدو مما سبق أن جابر بن زيد انضم في وقت مبكر إلى جماعة القعدة التي كان يتزعمها أبو بلال مرداس بن أدية والتي كان من أهم مبادئها الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة دون التعرض للناس أو رفع السيف في وجه أحد. ورغم العلاقة الوطيدة بينهما إلا أن جابر بن زيد لم يشترك في الأحداث السياسية التي جرت في تلك الفترة من التاريخ الإسلامي فقد تجنب أي احتكاك معاد مع السلطة الأموية، ولم ينقل أنه تعرض لأي أذى قبل أن يتولى الحجاج ولاية العراق على الرغم من أن كثيرا من أصحابه أمثال أبي بلال وأبي سفيان قد تعرضوا لأذى الأمويين منذ عهد زياد بن أبيه.

    واستمر جابر بن زيد يدعو إلى الإلتزام بالدين الإسلامي بالحكمة ويندد بالمنحرفين عنه بهدوء دون إثارة شغب أو دعوة إلى الثورة فكان يواجه الانحراف في الفكر والسلوك الذي ظهر في تلك الفترة، فقد عاش في فترة اتسمت بالبطش والظلم في البصرة منذ أن تولي العراق عبيد الله بن زياد إلى أن جاء الحجاج بن يوسف الثقفي. ومع التزامه الحكمة في الدعوة إلا أنه لم ينج من بطش الحجاج فسجنه فترة ثم نفاه إلى عُمان.

    ونظرا لمكانة جابر العلمية فقد أصبح له دور في توجيه الأحداث من مدينة البصرة وكان كثير الاتصال بأهل الدعوة رجالا ونساء يزورهم في بيوتهم ومساجدهم لغرض تعليمهم وتعهدهم بالموعظة والدعوة إلى الله.

    وقد وجه جابر بن زيد قسما من جهوده إلى إقناع بعض آل المهلب للانضمام إلى دعوته، وهذه القبيلة هي زعيمة الأزد العُمانيين في العراق وقد بلغوا بكفاءتهم أن تولوا مناصب في أجهزة الدولة الأموية، ولعل ذلك أكسبه تغطية إزاء أمراء الأمويين، وسترا يقيه من أن يتعرضوا له بأذى، واستمر الحال كذلك إلى أن انقلب الحجاج على آل المهلب فانكشف جابر وأدخل السجن[6].

    لم تقتصر جهود جابر بن زيد على الرجال وحدهم بل تعداهم إلى النساء، فتوجد معلومات تدل على وجود عدد من المهلبيات في صفوف الحركة وأنهن بذلن أموالا طائلة وجهودا كبيرة لنصرتها وكان الإمام جابر يزورهن ويستفتينه ويجيب على أسئلتهن، وممن كان يزورهن عاتكة بنت المهلب بن أبي صفرة وكانت تسأله عن مسائل في الدين[7].

    كما كانت له مراسلات مع كثير من أصحابه وتلاميذه في مختلف البقاع، فكان يجيب على أسئلتهم التي ترده منهم، وكانت تتخلل رسائله المواعظ الإيمانية والتذكرة بالآخرة والاستعداد للحساب. يبدو ذلك من رسائله إلى سالم بن ذكوان وطريف بن خليد والحارث بن عمر وعبد الملك بن المهلب وغيرهم. وكان شديد الحذر في اتصاله بأصحابه حتى لا يتنبه إليه أحد من أهل البغي فكان مما كتب إلى عبد الملك بن المهلب في إحدى رسائله: (اكتب إلي بما كانت لك من حاجة في سر وثقة، فإنك قد علمت الذي نحن فيه وما نتخوف من الذي يطلب العلل علينا). وفي رسالته إلى الحارث بن عمر كتب يقول: (واعلم أنك أصلحك الله بأرض أكره أن تذكر لي فيها اسما، فلا ترو شيئا مما كتبت إليك) [8].

    كما كانت له رسائل إلى العلماء يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر. فقد ذكر أبو يعقوب الوارجلاني في الدليل والبرهان أن ابن شهاب الزهري عندما أخذ يدخل إلى بيوت الأمراء ويتردد عليهم استنكر العلماء ذلك عليه وخاصة عندما أصبح وزيرا للوليد بن عبد الملك فقد أرسل إليه جابر بن زيد رسالة يؤنبه على فعلته تلك. وذكر أن ممن كتب إليه وهب بن منبه، وأبو حازم فقيه المدينة من جملة مائة وعشرين فقيها من الفقهاء. وقال أبو يعقوب[9] : (وقفت على كتب هؤلاء الثلاثة)[10].

    كان يصلي الجمعة خلف زياد بن أبيه وولده عبيد الله وخلف الحجاج وعاتبه أصحابه حضور الصلاة خلف الحجاج فقال إنها صلاة جامعة وسنة متبعة

    آثاره العلمية

    يقول الدكتور عمرو خليفة النامي : (وقد توزع علم جابر بن زيد في روافد كثيرة لعل أخصبها وأثراها هو ما أثره عنه تلاميذه الذين انتشر المذهب الإباضي على أيديهم، أبوعبيدة مسلم بن أبي كريمة، وضمام بن السائب وغيرهم، وقد تم تدوين ذلك الفقه في فترة مبكرة وكان جابر ابن زيد نفسه ممن استعمل الكتابة والمراسلة، فكتب بأجوبته إلى تلاميذه وأصحابه، وبين أيدينا اليوم قدر صالح منها) [11].
    والذي بين أيدينا من آثاره العلمية : كتاب النكاح وكتاب الصلاة وكثير من الروايات عن تلميذيه عمرو بن هرم وعمرو بن دينار بالإضافة إلى حديثه الذي جمعه الربيع بن حبيب في مسنده, هذا بالإضافة إلى مراسلاته مع تلاميذه أمثال سالم بن ذكوان وطريف بن خليد والحارث بن عمر وعبد الملك بن المهلب وغيرهم. كما أن الأخبار التي وصلتنا تذكر أن الإمام جابرا ألف كتابا ضخما في الحديث والفقه سمي بديوان جابر تعرض فيها لمسائل الأحكام وضمنه الأحاديث التي رواها عن الصحابة والتابعين. وكان لهذا الكتاب قيمة كبرى لما فيه من علم وهدى، ولقربه من عصر النبوة ولأخذه من أفواه الصحابة رضوان الله عليهم. وبقيت هذه النسخة في حوزة تلميذه أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ثم توارثها أئمة الإباضية في البصرة إلى أن استقرت في مكتبة بغداد التي أحرقها التتار فيما بعد.

    ويروى أن أحد علماء المغرب قام بنسخها وأحضرها إلى جبل نفوسة في ليبيا،ولكن تلك النسخة ضاعت أيضا[12].

    وبناء على هذه المعلومات نستطيع أن نقرر بأن الإباضية كانت من أول المدارس الإسلامية التي عنيت بتدوين الحديث ولعل بعض المؤلفات التي لا تزال مخطوطة والمروية عن جابر بن زيد هي قطع من هذا السفر الكبير [13].

    وإنه لمن المؤسف أن يضيع هذا التراث العظيم من مكتبة بغداد عندما أحرقت تلك المكتبة العظيمة! وضاعت منها آلاف النفائس، كما أنه من المؤلم أيضا أن تضيع النسخة التي وصلت إلى ليبيا فيما ضاع من التراث الإسلامي العظيم. وليس أعظم محنة من ضياع التراث العلمي والخلقي لأمة مسلمة لا يستقيم حاضرها إلا على القواعد المتينة التي أنبنى عليها ماضيها. ولولا ضياع هذه الكتب وأمثالها التي ضاعت على أيدي التتار وغيرهم لربما كان ويكون للمسلمين وضع آخر غير الوضع الذي هم عليه الآن إلا أنّ قدر الله غالب.

    أخلاقه

    لم يكن جابر ابن زيد ممن يجمع الأموال، بل تدل الأخبار على أنه كان قنوعا عفيفا، متواضعا، زاهدا في الدنيا، مقبلا على الآخرة. يروى أنه قال سألت ربي ثلاثا : امرأة مؤمنة وراحلة صالحة ورزقا كفافا فأعطانيهن. وقال يوما لأصحابه: ليس منكم أغنى مني ليس عندي درهم ولا علي دين. وقد قال في حقه ابن سيرين: كان أبو الشعثاء مسلما في الدينار والدرهم.

    وقد توفي الإمام جابر في سنة 93 هـ على أرجح الروايات واستلم قيادة الإباضية بعده الإمام أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة.

    ____________________________________________

    المراجع

    [1] أبو العباس الدرجيني: كتاب الطبقات. الجزء الثاني

    [2] أبو نعيم: حلية الأولياء . الجزء الثالث صفحة 85

    [3] ابن القيم: أعلام الموقعين

    [4] عوض خليفات : نشأة الحركة الإباضية صفحة 93 -95

    [5] عوض خليفات : نشأة الحركة الإباضية صفحة 95

    [6] يحي بكوش – فقه الإمام جابر

    [7] يحي بكوش – فقه الإمام جابر

    [8] رسائل الإمام جابر – مخطوطة

    [9] أبويعقوب الوارجلاني – من وارجلان بالجزائر، من علماء الإباضية البارزين له عدة مؤلفات منها الدليل والبرهان والعدل والإنصاف وهو الذي رتب مسند الإمام الربيع على النحو المعروف الآن.

    [10] الدليل والبرهان – الوارجلاني :تقر عن فقه جابر بن زيد ليحي بكوش

    [11] عمرو خليفة النامي: مقدمة أجوبة ابن خلفون

    [12] أبو زكرياء: السير ة وأخبار الأئمة وكذلك طبقات الدرجيني

    [13] عوض خليفات – نشأة الحركة الإباضية

مشاهدة 5 مشاركات - 1 إلى 5 (من مجموع 5)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد