مشاهدة مشاركاتين - 1 إلى 2 (من مجموع 2)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #19288
    strong
    مشارك

    أجلسني أمام الورقة قال لي :
    الفتنة نائمة، أيقظها.
    وكنت شغوفاً بالأبيض الماكر،
    أكاد أن أسأل : مَنْ منا سيغوي الآخر
    وهو يصرخ بي من خلف قرمزه المستتر :
    أيقظها.

    هذه الباهرة المجبولة بحليب الغموض. ما أن أضع عليها رحيق الثمرة المحرّمة حتى ترتعش وتخضلّ أطرافها، ومن كبدها ينبعث ذلك الزفير المثير ينهرني :

    أيقظها
    كمن يدفع أشلائي إلى هاوية العناصر التي تنحدر من الكهوف نحو اشتباك العواصم.
    اختبار الكتابة في غفلة اللغة
    هذا هو النص
    ها أنت الآن، أمامك الفتنة :
    جسد
    بياض
    خريطة
    إغواء
    تهفو للملامسة
    تقدم وأيقظها
    مَنْ أنت حتى تكشف عن الشباك التي أتوارى في سديمها.
    مَنْ أنت لتجس حديد القلب وتبذله لفضول الطهاة والصيادين
    مَنْ أنت يا من تضع الطريق أمام خطواتي وتسمّي الورقة
    خطيئة الصمت

    دعني
    دع الصخرة المشتعلة تلتهم أحشائي
    ولا تسأل عن هندسة الذهاب إلى ماء المعنى
    دع لي الجلوس أمام بياض السفر
    أهذي ويعصف بي تيه الرفقة الذين يقذفونني بالأحصنة من خلف متاريس الغربة، ويقذفونني بمفاتيح سجونهم لئلا أغفل عن البياض
    هكذا هو :
    تستحوذ عليه غيبوبة النص ويمضي مثل كبش مقصوف الأظلاف، يسعى إلى اجتياز الأعالي ليصل إلى شهق الجبل، ليقف هناك ويشير بإصبعه النحيلة :
    أنظر،
    هنا يكمن عسل اللغة وخبزها
    خذ قصعتك ولا تخذل رفقة
    ينتظرون صوتك

    يحلو له دوماً أن يهندس ويهندم ويجترح الخارق
    ولا أقوى على شكيمة ذهابه المجنون
    أضطرب، أهمس له بوجل :
    لكنه الخوف

    فيثق أكثر :
    جميل الكتابة أنها تجعل القلب يرجف مثل
    موجة خائفة تحت وطأة الريح المنبعثة من
    جحيم الأعماق.
    تشبث بخوفك،
    ولا تدع الفتنة نائمة
    هيّا،
    القتل هناك أقل موتاً.
    كلما سهوت عن النص، تسللت إليه الغزالة المصابة بالخبل، متخفية في زيّ غزالة مثلها. تفزّ من شباك الصيادين الوسيمين، تركض نحو داري المثقلة بالتخاريم والنمنمات، وتجلس في هدوء خبيث لترقب فجور الحمّى في ليالٍ لا تنتهي.
    تتحيّن غفلتي كي تتسرب من الحبر والحروف والجمل (يحدث كثيراً أن يختلط عليّ شكل الكلمات مع مخلوقات وعناصر لا تحصى) وغزالة مأخوذة كهذه، تقدر على تقمّص الأشياء والحالات، تستعصي على الوصف والأسر بفعل ما ينتابها من هياج، لكنها تحاول اقتحام تخوم النص ببسالة.
    صديقي الخلْد يواري ابتسامته الماجنة ويسمعني سخريته المكتومة :
    – كيف ستتصرف هذه المرة. إنها تدخل مصيدة النص، وسرعان ما تتخبط بين براثن الدلالات وأخلاط العناصر، حيث المعاني اللامتناهية.
    هاهي معجونة بالوجل، لن تتوقف عن الأسئلة، ولن يطالها اليقين.
    ماذا ستفعل لها أيها الضبع الأرقط ؟

    صديقي الخلد يتقن اقتناص اللحظات الباهرة ببراعة. يتمتع بغريزة الصقر وبموهبة الأصداف. وسوف يداري ابتسامته الماجنة دوماً فيما يتأمل الغزالة وهي تتوغّل في أدغال النص، مفتونة بالهذيان ولا أحد يحسن استدراج غزالة مخبولة مثل خلد ماجن.

    لكنني سأقتسم معه سرير الملكة ونستغرق في إغماء لذيذة بداخلها نتيح للمخيلة حرية الفتح بنص يفقد جواشنه في مجابهة اجتياح باسل.

    ماذا تريدين منا أيتها الغزالة المرنة ؟ تركنا لك حرية مراقبة المشهد، صبرنا على سهرك جالسة في حافة الميدان تلملمين الشظايا التي تخلّفها الكواكب ومبعوث السديم، فيما كنا نتبادل العراك.. أنا وصديقي الخلد.

    قلنا لك عن فزع النصال ولهب الصلصال
    حذّرناك من الشهوة الجارفة
    التي تفتك بالغريب في الليل
    وأنت وحدك.. وحيدة
    أنظري ماذا فعلت بنفسك
    ها أنت عرضة لمزاج الطهاة
    وهدفاً لقناصين يبدأون تمارينهم للتّو.
    من الذي غرّر بالصبية ؟
    يسأل صديقي الخلد، وهو الذي يهندس الشراك لقدميها الغامضتين منذ أن تعلمتا حركة الطريق. يسأل، وهو الذي يمتلك بصيرة السعاة. هو الذي كان يصفّ لها أقداح الخمر على حافة المسالك. يتقمّص حكمة الذئب ويؤرجح رخام البستان لينشد التهويدات وتراتيل العربدة.
    الآن يسأل !
    كأنه لم يطلق جياده المخبولة لتخبط بحوافرها المتآكلة عنفوان الصبية وهي تكتشف الجنس. كانت الأسوار عالية والصبية تجهش في صخب المجازفات. وكأنه لم يسدّ عليها الباب ليحتقن جسدها المذعور بين ساعديه.
    يسأل، صديقي الخلْد، وهو خدين الفراشات، هاتك أعراض العذارى، منظم رحلات الصيد الملكية، ملك الغواية.
    شخص يتقدم في ابتكار أقنعة الساحر. يتميز بمواهب الحاوي ويقظة البهلوان. ما أن يضع أنامله على كتف الصبية حتى ينتابها جنون المغامرة، حيث لجسدها اشتعالات الملاك وهو يبطش بعناصره، فلا تكاد تلتقي برجل حتى تجذبه إلى عشب الغابة وهو في الضرام، تفرك أنحاءه
    بالوحل حتى تتصاعد رائحة الأخلاط وهي تتمازج.
    ذلك الممسوس يخرج من جحيم الرؤيا، تستغيث به مخلوقات مصابة بشهوة الفقد. حين يدفع بها في تخاريم اللذة، يختلج جسده كأنه سيموت
    هذا الذي ليس للموت
    لكنه يسأل عن الذي غرر بالصبية.
    كانت محاطة بورع الأوزّ وخفر الحدآت. مشغولة عن مكامن الولع في كيانها بتطريز العباءات لنساءٍ يحلو لهنّ الذهاب إلى الحزن بأردية مشغولة بالقصب.

    كانت، عندما تغتسل عن حيضها، تتجمع عوانس الحي وعواقره، يركعن ليلمسن بأطراف أنوفهن ذلك الرحيق القرمزي، وروحهن مفعمة برجاء المباركة.

    كانت لا تلتفت لجهة إلاّ لتفادي نظرة رجل يتخابث. تبرأ بنفسها من صهوة الفتنة فتصاب بغفوة الرعشة.
    كانت .
    تلك الصبية التي كانت،
    سيملك هذا الخلد الفاتك أن يسأل عمن غرّر بها.. الآن.
    يا صديقي الخلد
    ها أنت تتخبط بين أجمل طرائدك الهتيكات، وبين أخلاط العناصر القادرة على البطش بمخلوقات تخلقها وتغدر بها.
    ها أنت تطاردني بشبق الناسك،
    تخدعني بالكتابة، وتخدع الكتابة بي.

    هكذا، نتكاسر مثل نمرين على حمل مذعور.

    من أين لي أن أد فع بأشلائي في النص وأنت تكتظ به
    كوكباً ينتحب، تضيق به حدود المجرّة.

    تسأل، والصبية تجهش بكلينا.
    وعندما يحين وقت الموت
    لا نجد أحداً يموت معنا.

    من كتاب (الجواشن) قاسم حداد – أمين صالح
    دار توبقال للنشر – المغرب – الطبعة الأولى 1989

    #427309

    هلا

    صراحة مقطع جميل جداً من كتاب الجواشن

    أشكرك اخوي على هذه المشاركة الجميلة

    تقبل موفور التحايا

مشاهدة مشاركاتين - 1 إلى 2 (من مجموع 2)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد