مشاهدة مشاركة واحدة (من مجموع 1)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #145142
    حسام حربى
    مشارك

    يُعتبر هذا المقال استكمالاً لسابقه المعنْوَن الظروف تحركنا كما تحرك الخيوط العرائس لكنه يركز على الجانب الجينى أو الوراثى فى تحديد طباع الإنسان وشخصيته بدلاً من العوامل اليومية التى توجّه سلوكه المباشر. وهذه النقطة وإن كانت شديدة الحساسية لدى كثيرين لتنافيها مع فكرتهم عن الحرية ورغبتهم فى الإستقلالية إلا أنها أيضاً شديدة الإثارة لكونها تمثل تقاطعاً بين الدين والفلسفة والعلم.. فهى من الأشياء القليلة التى اتفق ثلاثتهم عليها تحت مسميات شتى سواءاً كانت القضاء والقدر أم الحتمية أم علم الأعصاب والوراثة

    ولا يمكن القول بأى حال من الأحوال باكتشاف العلم لجديد لم يفطن له الناس منذ آلاف السنين حين يُنبه لتدخل الجينات فى تشكيل شخصياتنا . فالحكمة القديمة والتى يُصنفها بعض الفقهاء على أنها حديث ضعيف تقول تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس.. مما يعنى أن الناس منذ عهد الإسلام بل وقبله كانوا يعلمون جيداً بأن الإنسان ليس حر الطباع، وأنه -مثله مثل الحيوانات وسائر المخلوقات- يولَد بحزمة من الصفات النفسية التى يصعب عليه جداً إن لم يكن يستحيل تغييرها مثلها مثل الصفات الشكلية، ولذا فكانوا ينصحون بعضهم بعضاً بانتقاء زوج أو زوجة من سلالة حسنة لزيادة احتمال ظَفْر أبنائهم بطباع حسنة كوالديهم

    واليوم أود مشاركة القارىء العزيز فى مجموعة من الاكتشافات العلمية الحديثة التى لم أزل أجمعها بشغف واحداً تلو الآخر والتى تُبيّن كيف ترسم الجينات طريق حياتنا من المهد إلى اللحد. فمن ضمن الأشياء التى ترثها منذ مولدك، بل وبعضها يتحدد حتى قبل مولدك بتسعة أشهر لحظة اتحاد حيمن أبيك ببويضة أمك هى..

    -حبك للكسل أو للنشاط[1]
    -حبك للنوم والإستيقاظ مبكراً أو السهر طوال الليل[1ب]
    -طول عمرك أو قصره (ولذا فهناك عائلات معروفة بالتعمير)[2]
    -80% من مستوى ذكاءك (بافتراض حُسن التغذية والظروف)[3]
    -الإنحياز السياسى من حيث الميل للتجديد (الفكر التقدمى) أو الميل للتمسك بالثوابت والخوف من التغيير (الفكر المحافظ)[4]
    -مستوى التطرف فى هذا الإنحياز.. فهل تدافع عن فكرك وحزبك المفضل بشراسة أم لا؟[5]
    -مدى إنسياقك للضغوط الإجتماعية واتباع التيار السائد (يسببه كمية المادة الرمادية فى المخ، وبلوغها لمستويات معينة تجعل مخالفة الرأى المحيط بالفرد أمراً شديد الصعوبة والعكس)[6]
    -نسبة مِن مدى انحيازك لمصادقة أناس ذَوو طباع معينة والابتعاد عن آخرين ذَوو طباع أخرى[7]
    -الميل للإنطوائية أو للإنفتاح على الآخرين[8] (أحد أسبابه قلة نشاط المخ لدى الإنطوائيين عند التواجد بصحبة الناس بعكس الإجتماعيين)
    -معدل إفراز الأُكْسِتُسين هرمون الثقة والذى تجعلك كثرته أَلوفاً سريع الثقة فى الغرباء وتجعلك قلته لا تطيقهم ريبة وشكاً[9] وقد نجح العلماء بالفعل فى جعل المتطوعين يثقون أكثر فى الآخرين عن طريق رَش جرعة صناعية منه فى أنوفهم[10]
    -مستوى تعاطفك مع آلام الآخرين[11] (يسببه كتلة أعصاب خاصة فى المخ إسمها أعصاب المِرآة تُشعرك بنفس الألم الذى يَشعر به من تراهم يعانون فتهرع لمساعدتهم لتخفيف ذلك الألم الذى لا يُطاق عندك)
    -نسبة عالية من مستوى سعادتك ورضاك عن حياتك[12] (وقد تكلمنا فى مقال سابق عن الفائدة البيولوجية لعدم الرضا وقلة القناعة، فالمخ المثالى يخلق توازناً بين الحالتين)
    -مستوى التدين والميل للروحانيات[13]. وقد وُجد أن التوائم ذَوو الجينات المتطابقة الذين يتم فصلهم عند الولادة ليعيشوا مع أسر مختلفة يكبرون ليكونوا بنفس مستوى التدين بنسبة كبيرة[14] (ويوافق هذا الحديث القائل: خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا ، و خلق فرعون في بطن أمه كافرا[15] وأحاديث أخرى كثيرة بنفس المعنى)
    -الميل للسلوك الإجرامى من عدمه[16][17][18][19]، حيث يُمكن الآن التنبؤ عند بلوغ الأطفال سن ثلاث سنوات فقط مَن منهم سيكون مجرماً عندما يكبر[20] (ويتبع ذلك إدمان الخمر والمخدرات لأنها حزمة صفات خاصة بالقدرة على التحكم فى النفس.. وهذا يشرح سبب كون كثير من المجرمين مدمنين فى ذات الوقت)
    -احتمال ارتكابك لجريمة قتل[21] (له جين معين إسمه العلمى MAO-ِA وتم نعته بـجين القتل)
    -إدمان القمار[22] (يسببه نقص هرمون النُربَينفرين.. ولذا يمكن معالجة مدمنى القمار كيميائياً ليقلعوا عنه)
    -مستوى هرمون التستسترون هرمون الرجولة، مما يحدد مدى رغبتك فى الجنس وقدرتك عليه، وتشوقك للتنافس والإرتقاء فى المكانة الإجتماعية، وإلى حد كبير مستوى ميلك للعنف والصراع أو نفورك منهما[23]
    -الميل للشذوذ الجنسى من عدمه[24] (وُجد أن سببه جين يساعد النساء على الخصوبة لكنه حين يتواجد فى الرجال بجعلهم أكثر أنوثة مما قد يصيبهم بالشذوذ)
    -مستوى الإنحلال أو التسيّب الجنسى والذى يشمل الخيانة الزوجية[25] (وسببه زيادة مستقبلات هرمون اللذة الدُبَمين فى المخ مما يجعل التحكم فى النفْس شديد الصعوبة ويجعل صاحبه سريع الملل ساعياً للتغيير المستمر، ونسبته تكون أعلى فى سنوات الطفولة والمراهقة وأخفض عند الشيخوخة)
    -حزمة طباعك كلها بشكل عام خاصة القدرة على الإلتزام والتحكم فى النفس لأنها ذات صلة بهرمون السِرَتُنين، حيث وُجد أن قدرة الإنسان على التحكم فى النفس مقارنة بأقرانه فى نفس سنه لا تتغير تقريباً منذ الطفولة وحتى الوفاة[26][27]. وقد وُجد كذلك أن التوائم الذين يتم فصلهم عند الولادة ليتربوا مع عائلتين مختلفتين يكبرا ليكونا بنفس الشخصية تقريباً -لدرجة حبهما لنفس الأطعمة- مما يدل على أن اليد العليا فى تشكيل الشخصية للجينات وليست للتربية[28][29]

    إنها قائمة مخيفة أليس كذلك؟ هل تشعر أنك آلة بعد؟

    لكنها تطول باستمرار.. فهذه الاكتشافات على كثرتها تمثل مجرد خدش فى قشرة علوم الوراثة لأن علم الجينات الحديث بدأ بالكاد منذ 60 عاماً، وكثير من هذه المعلومات عُرفت فى الـ10 سنوات الماضية فقط. ولك أن تتخيل ما تحمله المائة عاماً المقبلة من معرفة وتفاصيل عن كيفية عمل الجينات والأعصاب والهرمونات وتأثيرها على حياتنا وطبائعنا وسلوكياتنا. وهذه المكتشفات ليست للفضول فقط بل لها تبعات تطبيقية جسيمة.. فهناك مِن العلماء فى الغرب مَن ينادى الآن بإلغاء نظام السجون العقابى مثلاً باعتباره نظاماً بدائياً ساذجاً واستبداله بمصحات نفسية لأن المساجين فى الحقيقة مَرضى وليسوا مجرمين. بل وهناك من يدعو لتحليل الحمض النووى فور الولادة لتحديد من سيتسبب فى مشاكل للمجتمع عندما يكبر لمعاملته معاملة مختلفة أو حتى التخلص منه واستبداله بطفل آخر أكثر ملاءمة

    وباختصار فعلم الوراثة يدعو للتخلص من فكرة الصواب والخطأ باعتبارها فكرة قديمة وساذجة بعدما وُجد أن خيارات البشر الحقيقية محدودة أو غير موجودة أصلاً، ثم التحوّل لطريقة تفكير أكثر عملية وتفهماً. وتطبيق هذه الأفكار قد لا يرى النور قبل عشرات السنين لاعتبارات سياسية دِمَجوجية لسهولة اتهام أصحابها بالعنصرية والظلم (الدِمَجوجية تعنى إرضاء الجماهير والدهماء بإعطائهم ما يريدون حتى لو كان خاطئاً)، لكن ظنى الشخصى أنها ستكون واقعاً ملموساً خلال مائة سنة مع تثبيت أقدام العلم فى عقول عامة الناس يوماً بعد يوم إضافةً إلى زيادة الوعى الدينى والفلسفى بفكرة القضاء والقدر أو الحتمية، حيث أن لكل شىء يحدث سبباً أدى لوقوعه -عُلِم أم لم يُعلَم- ولذا فلا يوجد لدى أجزاء الكون المختلفة من جماد أو أحياء قدرة اختيار بالمعنى الحقيقى، بل الكل يسير وفق خطة محكمة لا يمكن الخروج عنها وما تكلمنا عنه تواً ليس إلا مثال لكيفية عمل هذه الخطة فى البشر

    المثير بل والمضحك هنا هو شعورنا رغم كل ذلك بأننا أحرار. فلا يُرجع ذو الشخصية المنفتحة مثلاً انفتاحه لارتفاع معدل الأكستسين لديه.. ولا يتخيل أننا لو قللناه باستخدام عقار لصار إنساناً صعب المراس قليل الإحتمال للآخرين. ولا يُعزى ذو الرغبة الجنسية العارمة ذلك ببساطة لارتفاع التستسترون لديه والتى يمكن خفضه بعقاقير كيميائية (كالتى تُستخدم فى حالات التحول الجنسى) بل يظنها صفة لازمة له وجزءاً لا يتجزأ منه. ولا يظن الكسول نفسه كسولاً لأن به خللاً وراثياً يهدف لتوفير الطاقة والطعام.. بل يظل يلوم نفسه ويظل يلومه أقرانه على قلة نشاطه وكأنه اختار هذا الطبع ويستطيع تغييره بضغطة زر. ولا يدرك الكريم العطوف أن كرمه وعطفه يرجعان لزيادة نسبة أعصاباً عاكسة فى مخه تتسبب فى إيلامه حين يرى شخصاً أو حيواناً يتألم.. وأننا إن نزعناها منه بعملية جراحية فسيتحول إلى وحش منعدم الضمير كالذين كان يلومهم ويستنكر عليهم بالأمس. لا يدرك أحد أنه مجرد مجموعة المواد الكيميائية والومضات الكهربائية المتفاعلة التى تخلق فيه الرغبة وضدها ثم تتركه يختار -أو يظن أنه يختار- أيهما أقوى ليغلبها على الأخرى

    ولذا فإن قراءتنا عن هذه المكتشفات وتفكرنا فيها شديد الأهمية لتغيير الأفكار البدائية والإنتقال للمرحلة التالية من الوعى الشامل، وذلك كى نفهم الأسباب والمسببات على حقيقتها ثم نحاول تغيير الواقع بإيجابية وعملية بدلاً من التفرغ للعتاب والعقاب والمحاسَبة والمقارنة. وأحد مميزات ذلك هو دفع الكثير من الناس -وأحدهم كاتب هذا المقال- ليكونوا أكثر سعةً للصدر وتفهماً للإختلاف واستيعاباً للفروق.. بقدر المستطاع الذى تسمح لهم به جيناتهم!

    حسام حربى
    https://ubser.wordpress.com

    المصادر:
    [1]http://www.telegraph.co.uk/health/healthnews/7979966/Born-lazy-how-genes-dictate-our-love-of-exercise.html
    [1ب]http://news.nationalgeographic.com/news/2008/01/080126-sleep-genes.html
    [2]http://www.aljazeera.net/Home/GetPage/f6451603-4dff-4ca1-9c10-122741d17432/71b7cf54-eec5-4e1a-92e3-984b60a82b85
    [3]http://www.macalester.edu/psychology/whathap/ubnrp/intelligence05/Rnature.html
    [4]http://www.telegraph.co.uk/science/science-news/8228192/Political-views-hard-wired-into-your-brain.html
    [5]http://www.psychologytoday.com/blog/the-scientific-fundamentalist/200809/the-50-0-50-rule-in-action-partisan-attachment
    [6]http://psychcentral.com/news/2012/02/21/brain-region-linked-to-social-conformity/35087.html
    [7]http://www.bbc.co.uk/news/science-environment-12207954
    [8]http://www.livescience.com/culture/extroverts-faces-meaningful-100817.html
    [9]http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/22347177
    [10]http://www.economist.com/node/4032629?story_id=4032629
    [11]http://www.sfn.org/index.aspx?pagename=brainBriefings_MirrorNeurons&print=on
    [12]http://www.dailymail.co.uk/sciencetech/article-1384111/The-happiness-gene-determines-happy-are.html
    [13]http://www.csmonitor.com/2004/1129/p18s01-hfcs.html
    [14]http://www.newscientist.com/article/dn7147
    [15]صحيح الجامع للألبانى 3237
    [16]http://www.byronkho.com/criminality.doc
    [17]http://arstechnica.com/science/news/2011/02/thoughtcrime-the-ethics-of-neuroscience-and-criminality.ars
    [18]http://shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=03102011&id=1c1d02e6-f537-4514-9c5b-dad030516628
    [19]http://www.livescience.com/13083-criminals-brain-neuroscience-ethics.html
    [20]http://www.dailymail.co.uk/sciencetech/article-1350314/Scientists-identify-spot-future-criminal-age-THREE.html
    [21]http://www.statepress.com/2011/04/26/professor-looks-into-use-of-murder-gene%E2%80%99-in-justice-system/
    [22]http://www.netplaces.com/addiction-recovery/gambling-addiction/its-just-entertainment.htm
    [23]http://www.abc.net.au/science/slab/testost/story.htm
    [24]http://www.livescience.com/health/080617-hereditary-homosexuality.html
    [25]http://fyiliving.com/research/promiscuity-may-be-genetic
    [26]http://www.bakadesuyo.com/are-we-fundamentally-the-same-person-from-chi?c=1
    [27]http://www.ted.com/talks/joachim_de_posada_says_don_t_eat_the_marshmallow_yet.html
    [28]http://lornareiko.wordpress.com/2009/10/08/identical-twins-who-were-separated-at-birth-what-are-they-like/
    [29]http://www.collegetermpapers.com/TermPapers/Science/twins_and_genetics.shtml

مشاهدة مشاركة واحدة (من مجموع 1)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد