مشاهدة 8 مشاركات - 1 إلى 8 (من مجموع 8)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #140779
    كاريكا
    مشارك
    الحطاب الأمين

    أشرقت شمس يوم جديد، بعد ليل حزين مر على الحطاب وزوجته، عكس نصل المنشار والبلطة ضوء الشمس في ركن الدار، ليال طويلة والحطاب وزوجته يسهران بجوار ابنهما المريض، يقطع سعاله المتحشرج في قلبيهما، بالأمس زاره الطبيب وكتب له علاجًا كثيرًا، لم يكف مدخر رضوان الحطاب من المال لشرائه، بالكاد دفع أجر الطبيب، وقف رضوان الحطاب مكتوف الأيدي عاجزًا أن يرفع العذاب عن ابنه الوحيد، حمل رضوان الحطاب أدواته، البلطة والمنشار والمعول، واتجه صوب الصحراء، طالبًا رزقه من الله، نظر الحطاب إلى السماء بعين التوسل إلى الله وقال:

    اللهم رزقك الذي وعدت.

    قبل أن يخرج أعطته زوجته ورقة العلاج، فتحها ونظر فيها رغم جهله بما فيها من كلمات أجنبية ثم بكى.

    نظر الحطاب إلى شمس الصباح التي تعلو سنام جمله، أحس أن رزقه يناديه، ذكر رضوان الحطاب دعاء السفر والتوكل وهو ينادي جمله بالسعي.

    ابتلعت الصحراء الحطاب، غاص في دروبها وهضابها، ينقب عن فروع أشجار جافة، أو جذوع ماتت واقفة يقطعها، كلما وجد جذعًا حمد الله، يقطعه ويضعه على الجمل، هذه المرة يود أن يجمع أكبر قدر من الجذوع ليبيعها في سوق المدينة ويشتري دواء ابنه.

    ظل الحطاب يجمع الجذوع والفروع حتى أنهكه التعب، فأرقد الجمل وتوضأ وصلى الظهر.

    فجأة سمع صهيل فرس جامح، يعدو أقصى الشرق ثم يرجع أقصى الغرب ثم يعود مسرعًا عند سفح الجبل، فعل هذا عدة مرات، وهو يصهل بصوت مخنوق، تعجب رضوان الحطاب من فعل الفرس، بصعوبة وقف الحطاب ينظر في فضاء الصحراء، كان التعب يجذبه ليستريح، لكن حالة الفرس جذبت همته، هرول الحطاب الى سفح الجبل.

    قرب السفح بجوار صخرة كبيرة وجد الحطاب شيخًا كبيرًا يتأوه، جذب الحطاب الشيخ في حضنه، وسأله بلهفة عما به، قال الشيخ بصوت هزيل:

    ماء.. ماء.. أريد شربة ماء.. وائتني بهذا الفرس أكرمك الله.

    كان خُرْج الشيخ بجواره، أسرع الحطاب يفتش فيه عن الماء، جذبه الشيخ من يديه غاضبًا وقال:

    ابعد عنه أيها اللص.

    صدر عن جذب الشيخ للخُرْج صوت، كأنه رنين حلي، أحس الشيخ بغضب الحطاب، رجع الشيخ بلين الحوار، وابتسم قائلًا:

    يا أخا الإسلام لو كان معي ماء ما طلبت منك.

    أسرع الحطاب الى جمله، وأخرج الماء من خُرْجه وأتى به الى الشيخ، ذهب عطش الشيخ، ولكن أطرافه ظلت تهتز بقوة، كانت الحمى تتملك من فرائصه، أشعل الحطاب بجواره بعضًا من الأخشاب لتدفئته، بات الحطاب ليلة يداويه، ودام المزاح بينهما حتى الفجر، وقال الشيخ:

    في البدء ظننت أنك من لصوص الصحراء.

    سأله الحطاب من أي البلاد جاء، قال الشيخ:

    أنا تاجر من بلاد الحجاز واسمي عمران النجار وعليَّ دين لورثة شريكي في تبوك، وذاهب لأداءه.

    الحطاب: إن طريقك وعر طويل وصحتك لا تتحمل هذه المخاطرة.

    الشيخ: الأمانة.. الأمانة.. يا أخا الإسلام.. الأمانة أثقل من هذا الجبل مادمت في سبيل الله فأنت في حماه.. منذ قليل انشقت الصحراء عنك.

    فشل الحطاب في إقناع الشيخ عمران بالرجوع حتى يشفى، تسامر الحطاب والشيخ عمران حتى طغى التعب على انتباه الحطاب فنام، وظل الشيخ عمران منتبهًا.

    لسع شمس الصباح أيقظ رضوان الحطاب من نومه، لكنه لم يجد الشيخ عمران بجواره، هرول الحطاب يمينًا وشمالًا كالمجنون ينادي الشيخ عمران، كان الشيخ عمران قد لمَّ متاعه وانطلق بفرسه، فقد الحطاب الأمل في العثور على الشيخ، وقف حائرًا يحاور نفسه:

    أين ذهب.. قد تقضي الحمى عليه وحده في هذه الصحراء الشاسعة، إنه مصمم على الرحلة.. أي أمانة تجعله يلقي بنفسه في المخاطر.

    واصل الحطاب رحلة البحث عن الجذوع والفروع.

    شهور طويلة والحطاب يتنقل عبر دروب صحراء شبه الجزيرة العربية، يبحث عن جذوع الاشجار، ذات مرة كان الحطاب يضرب ببلطته في جذع ما، سمع صوتًا غريبًا كأنه خشخسة مفاتيح، نقب الحطاب حول جذور الشجرة وإذا به يجد صندوقًا حديديًّا، حمل الحطاب الصندوق بين يديه، كان مغلقًا بأقفال صدئة، هز الحطاب الصندوق ليعرف محتواه، سمع صلصلة حلي بداخله، ضرب الحطاب الأقفال بالبلطة عدة ضربات حتى انفرجت، أغشى بصر الحطاب ضوء أخاذ صدر من الصندوق، قلب الحطاب المصوغات بين يديه، كاد الحطاب يطير من الفرح وهو يردد:

    الحمد لله والشكر لله.. اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا.. لك الحمد يا رب عدد خلقك وزنة عرشك ومداد كلماتك.

    لمح رضوان الحطاب أسفل المصوغات ورقة، أمسك بها وتعجب وقال:

    ما هذه الورقة؟!

    فك الحطاب طيات الورقة، وجد بها ورقة أخرى، قرأ الحطاب:

    إلى كل حطاب أمين.. هذه المصوغات أمانة لأيتام في مدينة تبوك ورثة المرحوم فواز العتيبي.. من يجدها يبحث عنهم ويؤديها إليهم وله الأجر في الدنيا والآخرة.. والآخرة خير وأبقى.

    حاور رضوان الحطاب عقله الباطن ورد عليه:

    كم أنا محتاج لهذه المصوغات لعلاج ابني.. لكن قد يكون أصحابها أشد مني حاجة إليها.

    وراح يفكر ويفكر في الرسالة، وقال لنفسه:

    كان الشيخ عمران يعاني من مرض الموت وحريصًا على توصيل الأمانة لأصحابها.

    في الصباح حمل رضوان الحطاب خُرْجه على كتفه وأكثر من الزاد والماء، بالأمس حكى لزوجته حكاية الصندوق، زادته إصرارًا على توصيل الأمانة لأصحابها، ما وجد في نفسها طمعًا فيها قط، قال لها:

    اللهم قوِّ إيمانك يا آمنة.. حسبتك تطمعين في الحلي.

    استقر الحطاب على الجمل، وأشار له بالسير، تبادل الشهادتين مع زوجته قبل الفراق، نادته زوجته وكأن الخوف يطاردها وهي تهرول وراءه وتقول:

    يا أبا محمد.. إياك ولصوص الصحراء.

    ثم نظرت إلى السماء ورفعت يديها والدموع تحاصرها، وقالت:

    اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بينه وبين أهل الحق.. ونجه ممن لا يهابك ولا يرحمه.. فهو في طوع أمرك ذاهب.. فاجعله يا رب في حماك يا كريم.

    ظل رضوان الحطاب غائرًا بين الهضاب والجبال، يقذفه جبل الى واد، يدخل الحطاب إلى أماكن لا يعلمها إلى أن يهتدي بدلال الصحراء، لا يتوقف عن المسير إلا إذا حل موعد لصلاة.

    ذات مرة أناخ الحطاب الجمل، ووضع الزاد أمامه وبدأ يصلي، وفور فراغه من الصلاة لمح خلف الصخور لصوصًا يتغامزون عليه، في غمضة عين جمع الحطاب الزاد والمتاع على الجمل ولكزه ليقوم.

    قام لجمل وبدأ السعي، لاحقه اللصوص وأحاطوه، جذب أحدهم حبل الجمل.. أناخوه بالقوة.. صرخ أحدهم:

    من أنت؟ ومن أي البلاد جئت؟

    لم يرتجف الحطاب ولم ترهبه كثرتهم، وقف ثابتًا وقال:

    رضوان صابر الحطاب، وجئت من بلاد الله سعيًا وراء رزق الله المنثور في أرض الله، صرخ كبيرهم وقال:

    وماذا في هذا الخُرْج من أموال؟

    لا مال معي فأنا حطاب على باب الله أقف، أذوب في الصحاري، أسأله رزق أسرتي.

    جذب أحدهم الخُرْج من يد الحطاب، فجذبه الحطاب منه مرة أخرى، واستل منه المنشار والبلطة، لوى الجمل رقبته غاضبا، ورفع كبير اللصوص السيف في وجه الحطاب صارخًا.

    قضيت على نفسك أيها الأحمق.

    التقم الجمل ذراعه الطائر، ونزعه من كتفه فصرخ متألمًا، وركض في الصحرء وهو ينزف من كتفه ونادى زميله:

    ابتعدوا يا رفاق.. ابتعدوا يا رفاق.. هذا الجمل مسعور.. مسعور

    هرول اللصوص في الصحراء، ووقف الحطاب يضحك، ثم نظر إلى السماء والدموع تنهمر من عينيه، وهو يربت على رقبة الجمل ويقول:

    سبحانك اللهم وبحمدك.. لك الحمد والشكر.. حافظ الحقوق والأمانات.

    فكر الحطاب في وسيلة يحفظ بها صندوق المصوغات وقال لنفسه:

    بدون الأحطاب يطمع لصوص الصحراء في.. يظنون أنني تاجر، ماذا لو جمعت بعض الجذوع معي على الجمل.

    بحث الحطاب عن جذوع يقطعها حتى وجد، قطع جذعًا وحفر بداخله جزءًا بحجم الصندوق، ثم زاد قليلًا، وضع الحطاب الصندوق بداخل الجذع، ودق جزءًا من الخشب على الصندوق، ثم غطاها بلحاء الشجر مرة ثانية، وربط حولها بعضًا من أوراق الشجر الجاف.

    ربط الحطاب الجذعين على جانبي الجمل وواصل رحلته.

    في الطريق هاجمه اللصوص مرة ثانية، همّ الجمل يلتقم أيديهم لما أناخوه بالقوة، رجع عن عزمه بعدما ربت الحطاب على رقبته، هذه المرة الحطاب مطمئن أنهم لن ينالوا منه شيئًا، فتشوا جميعًا في متاعه وخُرجه.. لم يجدوا مالًا، صرخ كبيرهم:

    أين أموالك يا رجل؟ انطق وإلا قتلتك.

    بسط الحطاب كفيه وقال:

    أنا حطاب فقير وليس معي مال.

    رفس أحد اللصوص الأخشاب بقدمه وقال:

    هذا صيد عفن يا رجال.. ليس معه إلا أخشاب.

    بعدما نجا الحطاب للمرة الثانية من لصوص الصحراء، أكثر من الحمد لله.

    واصل الحطاب رحلته حتى بانت له أبنية تبوك، أشرق وجهه بالنور، وحملته الفرحة حتى وصل، سأل أول شاب قابله عن بيت فواز العتيبي، قال وهو شارد الفكر:

    فواز العتيبي.. فواز العتيبي.. لا أسمع بهذا الاسم.. فقط أعرف فهد العتيبي.. عله يدلك عليه.

    مشى الحطاب حتى قابل شيخًا كبيرًا فسأله، بكى الشيخ وجذبه من عنقه وقال:

    هل وجدته يا بني؟ أنا فهد أخوه.

    تعجب الحطاب وقال:

    أين وجدته؟! أنا أسأل عن منزله له أمانة معي.

    تراجعت تجاعيد وجه الشيخ فهد القاطبة وقال:

    أي أمانة يا بني.. إنه شبه مفقود منذ أكثر من عشرة أعوام.

    وأين أهل بيته؟

    أشاح الشيخ فهد بيده وقال:

    هم أيضًا شبه موتى.. منذ أن خرج بتجارة إلى أم القرى في رحلة الشتاء لم يعد، وزوجته تبكي حتى ابيضت عيناها من البكاء عليه وشلت ساقاها وتحتاج إلى علاج غالي الثمن.. هي الآن تقبع على أبواب الطرقات بطفليها يسألون الناس قوتهم.

    الحطاب: أبشر يا شيخ فهد.. إن فواز ماله حلال وأهله من أحباب الله.. ولهذا حفظ الله لهم ماله.

    جذب الشيخ فهد الحطاب من جلبابه وقال: كيف؟!

    الحطاب: هيا ائتني بهم وستعرف.

    بحث الشيخ فهد عن زوجة أخيه وطفليها حتى وجدهم، أخرج الحطاب الصندوق أمامهم من جذع الشجرة، وفتح الصندوق وقال:

    هذا حقكم حفظه الله لكم.. وشاءت الأقدار أن أعثر على أمانة أبيكم بعدما عاجل العمر شريكه عمران، رحمه الله.. الذي مات في الصحراء وهو في طريقه إليكم.. لما باغته الأجل.

    أخرج الورقة الأخرى من الصندوق وقرأها:

    أبنائي الأعزاء.. زوجتي الحبيبة.

    اشتركت مع أخي في الله الشيخ عمران النجار في تجارة كبيرة بكل أموالي ولم أستطع الرجوع.. وأنا على فراش الموت.. عاهدت الله وعاهدت شريكي الشيخ عمران أن يقوم بتوصيل الأمانة التي أودعتها عنده لكم بعد موتي.

    توقف الحطاب عن القراءة وقال الشيخ فهد:

    أكمل.

    الشيخ عمران أكمل الرسالة بخط يده وكأنه يرد على أبيكم، ويقول: نم مطمئنًا في مرقدك يا فواز وأمانتك في عنقي إلى يوم اللقاء.

    قام الشيخ فهد يحتضن الحطاب ويشكره على أمانته، فقال له:

    لا تشكرني ولكن اشكر الله.. بهذا أمرني.. وهكذا علمني الإسلام.
    #1493912
    noor_888
    مشارك

    تسلم كاريكااا  ع  القصه

    الله يعطيك الف عافية

    #1493922


    #1493970
    mouza
    مشارك

    شكرا لك أخي كاريكا على القصة

    #1494393
    كاريكا
    مشارك

    “ubbcode-header”>صاحب المشاركة : noor_888″ubbcode-body”>تسلم كاريكااا ع القصه

    الله يعطيك الف عافية

    شكرا لمرورك اختي نور

    #1494395
    كاريكا
    مشارك

    “ubbcode-header”>صاحب المشاركة : امير بكلمتي”ubbcode-body”>

    اسعدني تواجدك امير

    #1494396
    كاريكا
    مشارك

    “ubbcode-header”>صاحب المشاركة : mouza”ubbcode-body”>شكرا لك أخي كاريكا على القصة   

    موزا شكراً لمرورك الرائع

    #1506683
    khaledebnrshd
    مشارك

    مشكور اخى على القصة

مشاهدة 8 مشاركات - 1 إلى 8 (من مجموع 8)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد