الرئيسية منتديات مجلس التعليم العصري الدراسات واللغة

مشاهدة 4 مشاركات - 1 إلى 4 (من مجموع 4)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #126839

    ـ الفصل الثاني جمالية أسلوب الخبر

    القسم الأَول: مفهوم الخبر وأغراضه وأساليبه

    1 ـ مفهوم الخبر:

    انتهينا فيما سبق إلى أن البلاغيين العرب لم يتفقوا على تعريف واحد للخبر؛ وإن شاع تعريف القزويني لـه قديماً وحديثاً… وملخصه أنه كل كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته…

    ويؤكد ذلك تعريف فخر الدين الرازي (ت 606 هـ) بقوله: إنه القول المقتضى بتصريحه نسبة معلوم إلى معلوم بالنفي أو بالإثبات. ومَنْ حَدَّه بأنه المحتمل للصدق والكذب المحدودين بالخبر لزمه الدور. ومن حَدَّه بأنه المحتمل للتصديق والتكذيب المحدودين بالصدق والكذب وقع في الدور مرتين(1). فالنفي تعمد الكذب لا الكذب كقول الكافر: (الحق باطل)… وتصديقه قوله: (الحق عَدْلٌ).

    وبهذا نظروا إلى الخبر باعتبار مطابقة الواقع أوْ لا؛ بغض النظر عن قائله؛ فأخرجوا كل ما يتعلق (بالقرآن والحديث والبديهيات والحقائق العلمية والمسلمات التي لا يشوبها الشك) من احتمال الكذب فيها مع أنها تنتمي إلى الإخبار… فهو أسلوب بلاغي جمالي شديد التركيب وإن ظهر للوهلة الأولى أنه بسيط وقريب. وكنا أبرزنا في مناقشتنا السابقة عدم دقة تعريف الخبر لديهم؛ لقصور واضح في جوانب شتى. ويمكننا أن نعُرّف الخبر في إطار ما سبق كله بأنه كل كلام يحتمل الصدق أو الكذب لذاته أو باعتبار اعتقاد قائله أو باعتبار الواقع الحقيقي أو الفني.

    ولعل هذا التعريف لا يخرج أي نمط من أنماط القول التي ينطبق عليها حدّ الصدق أو الكذب… وهو يسلمنا إلى بيان أغراض الخبر الحقيقية ثم المجازية؛ ومن بعدُ يوقفنا عند أضرُبه ومُؤكداته… ليثبت ذلك كله أنه من الخطأ الفادح التعامل مع أسلوب الخبر على أساس صورته اللغوية المباشرة، أو من خلال ما شاع لـه من تعريف أحادي الاتجاه.

    2 ـ أغراض الخبر وأساليبه:

    نظر البلاغيون إلى أغراض الخبر باعتبار المتكلم ـ ووفق مقتضى الظاهر ـ فوجدوا أن لـه غرضين أصليين. فهناك جملة ألقاها المتكلم بغرض إفادة المخاطب؛ أطلق عليها (فائدة الخبر). وهناك جملة أخرى أُلْقيت بغرض الإمتاع وتحقيق الخبر وتوكيده عند السامع أطلق عليها اصطلاحاً (لازم الفائدة).

    ونظروا إليها باعتبار المتكلم والمخاطب ـ وبخلاف مقتضى الظاهر ـ فوجدوا لها ثلاثة أغراض، ثم رأوا أن هناك أغراضاً خرجت عن ذلك كله فأطلقوا عليها الأغراض المجازية… وهذا كله ما سنحاول إيضاحه تباعاً.

    أولاً ـ الأغراض وفق مقتضى الظاهر

    للخبر غرضان وفق هذا الاتجاه وهما:

    أ ـ فائدة الخبر:

    هو إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة أو الكلام… وهو الأصل في أي خبر يقدمه المتكلم للمخاطب… وفيه يتصور المتكلم أن المخاطب خالي الذهن من علمٍ يقدم إليه بالخبر، ولم يفكر فيه، ولم يُعمل ذهنه بمعرفته؛ ولم يكن لـه موقف نحوه فيقدم لـه المتكلم جديداً يفيده به؛ أي إنه يريد أن يفيد السامع بما كان يجهله…

    وهذا الخبر ينظر إليه باعتبار المتكلم وحده؛ مما ينقض آراء البلاغيين حول التعريف الذي تبنوه للخبر وفق علاقته بالمخاطب… ونبدأ بقوله تعالى: )تبارك الذي نزَّل الفُرْقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً( (الفرقان 25/1 ـ 2). فالله سبحانه وتعالى الذي يتصف بالعدل والصدق…. أراد هداية البشر فأخبرهم بأنه نزل كتابه على رسوله لينذرهم بوساطته إلى صراط مستقيم… ولم يكن لديهم علم به قبل نزوله. ومثله قول الفرزدق حين طلق زوجه (النوار) ومن ثم ندم على فعلته التي أخرجته من جنتها؛ مثله مثل آدم الذي أخرجه فعله من الجنة؛ فهو يخبرنا بذلك ولم نعلم به من قبل:

    وكانَتْ جَنَّتي فَخرجْتُ منها

    كآدمَ حين لجَّ بهِ الضِّرارُ

    وقال المتنبي موضحاً لسامعيه ما يراه في بعض الناس من التقصير في عمل الخير:

    وما كلُّ هاوٍ للجميلِ بفاعلٍ

    ولا كُلُّ فَعَّالٍ لـه بمُتمِّمِ

    فهو يفيدهم بما لا يعرفونه، ولهذا فإن أسلوب الخبر يتجه إلى الاقتصاد اللغوي فيما يدل عليه فقط. ثم إن هذه الجمل التي استشهدنا بها تناقض ما قاله البلاغيون في شأن توضيح غرض الفائدة حين حصروه بالجملة الخبرية المتجهة إلى ذلك دون التواء؛ وأخذوا الشواهد من القرآن والشعر باعتبار التفسير الظاهري للخطاب اللغوي المباشر. ولهذا تحررنا من الخطاب المباشر من جهة؛ وربطنا الخبر بالمتكلم من جهة أخرى، إذ تبينا أن القول الذي يلقيه المتكلم لإفادة المخاطب يتضمن فكرة بديعة بأسلوب أدبي رفيع ومثير…

    فهو حكم مطابق للواقع الحقيقي ومنسجم مع تطلعاتنا الفنية والبلاغية، على اعتبار أن صاحبه يعرف تماماً ما يهدف إليه…. وعليه قوله تعالى في الإخبار عن الغيبة ـ وهو كثير في القرآن الكريم ـ: )إنَّا فَتَحْنا لك فتحاً مُبيناً( (الفتح 48/1).

    ب ـ لازم الفائدة

    هو إفادة المخاطب أن المتكلم عالم بالحكم؛ ولهذا فلا يقدم معرفة أو علماً يذكر للمخاطب… فضلاً عن جماليته المتضائلة، مما يدعو إلى إهماله أحياناً.

    هذا ما رأيناه في بعض كتب البلاغة عن هذا الغرض؛ فالمتكلم يريد إخبار المخاطب أنه يعلم الخبر الذي يعرفه…. وهنا يُستشهد ببيت المتنبي في مدح شجاعة سيف الدولة وبطولته:

    تدوسُ بكَ الخيلُ الوكورَ على الذُّرا

    وقد كثُرَتْ حول الوُكورِ المطاعمُ

    فسيف الدولة يعلم بذلك كله، كما هو في بعض كتب البلاغة، ولا تزيد عليه شيئاً يُذكر كما ذهبت إليه.

    ولو افترضنا أن زيداً قد زار صديقه محمداً؛ فخاطبناه بقولنا: (زارك زيد البارحة) لكان الخبر من هذا الباب، لأنه لا يحمل عبارة مشرقة ومفيدة؛ ولكن لو قلنا له: (زيارة زيد لك البارحة كانت ماتعة ومثمرة)… لاختلف أسلوب العبارة والعلم بدلالتها. وهذا الذي يتّصف به الكلام البليغ الذي يمتاز من الكلام السقيم. ومن هنا فالمتنبي لم يَسُق الخبر بعبارة جافة ومنفرة، وإنما صوَّر فيها بطولة سيف الدولة بأسلوب بديع. ومثله وجدناه في مدح الفرزدق لسليمان بن عبد الملك بعد تسلّمه الخلافة بسَنَة:

    أرى اللهَ في تسعين عاماً مضَتْ له

    وسِتٍّ مع التسعين عادَتْ فواضلُهْ

    فسليمان يعلم أن الإسلام مضى عليه من الهجرة ستة وتسعون عاماً انتهى فضلها كله

    إليه.. ولكن الفرزدق ساقها بشكل لطيف ومثير حين ساق الخطاب بإرادة إلهية؛ وجعل الخير يستقر بين يدي سليمان.

    فمشاركة المتكلم المخاطب بمعرفة الحكم كلام مفيد بيد أنه قد لا يضيف تفرداً جمالياً إذا حُمل الخبر على المفهوم الحدّي للازم الفائدة، فحين قلنا لمحمد قبل قليل: (زارك زيد البارحة…) فقد ألقيها بطريقة تدل على استهجان، أو تعجب، أو مدح… ما يجعلها ترتبط باعتقاد المتكلم ومشاعره وتصوره، فيضاف إلى باب الاشتراك في الحكم معنى جديد لم يعرفه المخاطب. ولهذا يصبح لعلامات الترقيم مكانة جمالية في أساليب البلاغة ترتبط بالقرينة مشافهة وكتابة. ثم إن القرينة في الكلام قد تدل على معنى لا يعرفه المخاطب، أو لا يتخيل أن يقوله المتكلم على الوجه الذي سيق فيه… وهذا ما نستشفه من مدح المتنبي لسيف الدولة الذي طفح وجهه بالبشر حين رأى هزيمة عدوه وكثرة ما أوقعه بالأبطال من القتل والجراحة؛ ولكن لم يكن يعلم بالطريقة التي سيصف بها المتنبي ذلك كله في قوله البديع القائم على مفهوم التقابل الجمالي الطريف بين الشطر الأول والثاني، فالأول يوحي بالعبوس، وجهامة وجه المهزوم، والثاني يشي بانتصار سيف الدولة وعزته، حين طفح وجهه بالبشر والفرحة، وهو يستعرض جنود أعدائه المهزومين فيقول:

    تمرُّ بكَ الأبطالُ كَلْمى هزيمةً

    ووَجْهُكَ وضَّاحٌ وثَغْرُكَ باسمُ

    فنحن نُقرُّ بمبدأ التقسيم الوارد في الخبر، لكننا نرى فيه أضحُوكةً وضَحالة إن وقف عند مفهوم الاشتراك في حكم المعرفة بين المتكلم والسامع في لازم الفائدة.

    وهنا نسجل لعلم الكلام فضلاً على أسلوب الخبر، إذ قدَّم رؤىً جديدة لأغراضه؛ وبخاصة حين منح أسلوب الخبر بعض المصطلحات مثل (المحكوم عليه) و(المحكوم به) و(لازم الفائدة).

    وعلى الرغم من أنه قيَّد البلاغة بمفاهيمه المنطقية الخاصة؛ فإن البلاغة بجمالياتها بقيت أعظم منه بكثير… ما جعلتنا نقترح تعريفنا السابق للخبر، ثم عرضنا تحليلاً جمالياً لغرضَي الخبر، وهو تحليل يتفق مع روح البلاغة وأساليبها الفنية… دون أن ننكر تقسيماتها أو تفريعاتها بحدّ ذاتها، وإن لم ترتق إلى ما تحدثنا عنه.

    هذان هما الغرضان الأصليان اللذان يهدف إليهما الخبر وفق مقتضى الظاهر… ويقول السكاكي: ثم إنك ترى المُفْلقين السحرة في هذا الفن ينفثون الكلام لا على مقتضى الظاهر كثيراً(2)، وكأنه لا يرضيه إلا هذا الغرض؛ إذ يستشف من عبارته أنه يزري بمن سبقه في الحديث عن هذا الغرض.

    ثانياً ـ الأغراض بخلاف مقتضى الظاهر:

    ترتبط الأغراض التي تخرج بخلاف مقتضى الظاهر بالمتكلم والمخاطب معاً، فالمتكلم يعامل المخاطب على أنه خالي الذهن متردّدٌ سائل، أو خالي الذهن شاكٌّ، أو خالي الذهن مُنْكِر… وكل ذلك مرتبط بمقاصد المتكلم ومعرفته… وبتصوره لأحوال المخاطب… وقد ينزل المتكلم المخاطب المنكر منزلة غير المنكر والعكس صحيح لأمر بلاغي ما… إنها ثلاثة أغراض في عرف البلاغيين العرب، ويزيد الفراء والزمخشري وغيرهما غرضاً رابعاً فنياً… وهو استعمال لفظ مكان لفظ لأمر بلاغي ما… وسنعرضها بالتفصيل.

    أـ إنزال خالي الذهن منزلة السائل المتردّد والشاكّ والمُنْكِر

    سنتوقف بعد قليل عند أضرب الخبر باعتبار طريقة إلقائها للمخاطب… تبعاً لأحواله في قبول الخبر أو إنكاره… ولهذا يحتاج المتكلم إلى توكيد خبره بمؤكد أو أكثر حسب الحاجة في الخطاب… وهذا هو الشيء الحسن في الخطاب البلاغي، فحُسْنه تقويته بالمؤكدات المراعية لحال السامع. ويظهر لنا أن أنماط المؤكدات تستعمل في أغراض الخبر التي تكون بخلاف الظاهر؛ إذا أنزل المتكلم مخاطبه منزل السائل المتردد، أو الشاكّ، أو المنكر على الرغم من أنه خالي الذهن تماماً من حكم الخبر.

    فالمتردد والشاك في الحكم ليس متيقناً منه بين الرافض له، والقابل به؛ والمنكر لـه يكون أقرب إلى رفضه وعدم قبوله… ما يجعل المتكلم يتبع طريقة مغايرة في إلقاء الخبر إليه مغايرة للطريقة التي يتبعها فيما لو أنزلـه تلك المنزلة…

    فالجملة الخبرية تتخذ أسلوباً جمالياً شفيفاً وجديداً ومتنوعاً بوساطة المؤكدات أو الشرح والتفصيل… وهو أسلوب يعتمد على المخزون الشعوري الفياض والمتوتر.

    فالمخاطب المتردد يمكن أن يلقى إليه الكلام بمؤكد واحد؛ أو بالشرح له؛ ومثله الشاك كقوله تعالى يخاطب فيه نوحاً (عليه السلام): )ولا تخاطبني في الذين ظلموا؛ إنهم مُغْرَقون( (هود 11/ 37).

    جملة إنهم مغرقون جملة خبرية مؤكدة بالحرف (إن)… فالأصل أن تخرج وفق مقتضى الظاهر؛ وتكون (فهم مغرقون) لأن (نوحاً) خالي الذهن من الحكم فيها، وكان يدور في خلده موقف نفسي آخر في الذين خاطب بهم ربه؛ في أن يغفر لهم وابنه منهم… لهذا خرجت جملة (إنهم…) بخلاف مقتضى الظاهر، وتقدم لـه الخبر لينتهي التردد الذي حصل في نفسه حول مصير القوم… واستعمل فيها مؤكداً واحداً.

    وإذا زادت حيرة المخاطب وترددهُ في قبول الحكم استعمل في الخبر أكثر من مؤكد كقولـه تعالى في خطابه لإبراهيم (عليه السلام): )فلما ذهب عن إبراهيمَ الرَّوْع، وجاءَتْه البُشرى؛ يجادلُنا في قوم لُوْط* إن إبراهيم لحَليمٌ أَوَّاه مُنِيْبٍ يا إبراهيم أَعرض عن هذا؛ إنه جاء أَمْر ربكَ؛ وإنهم آتيهم عَذابٌ غَيْرُ مردود( (هود 11/ 74 ـ 76).

    فإبراهيم (عليه السلام) في موقف حيرة وتردد وتساؤل عن أمر القوم بعد جدال طويل فيهم… لأنه طامع في أن يُغْفَرَ لهم على علمه بذنوبهم… ما اقتضى الخطاب الإلهي أن يزيد المؤكدات لمناسبة مقتضى الحال والمقام النفسي له… وهو مقام مختلف عما رأيناه عند نوح من قبل… لهذا كله جيء بالمؤكد (إنَّ) ثلاث مرات؛ آخرها كان الإبرام فيها بالقرار (إنهم آتيهم…) ومن قبل استعمل حرف اللام مع (حليم) فقال (لحليم)…

    أمّا قوله تعالى: )وما أُبرّئ نفسي؛ إنَّ النَّفسَ لأَمَّارَةٌ بالسوء( (يوسف 12/ 53) فيوسف يتساءل في نفسه على لسان أحد ما: لماذا تبرئ نفسك؟ وهو مقام استنكاري، فاستخدم (إن واللام)؛ ويوضح هذا تمام الآية إلا ما رحم ربي وسياقها في النص، وقيه ورد توكيدان لصدق يوسف، وإزالة الإنكار الذي يعتقد به فيه، حين قالت امرأة العزيز: )وإنه لمن الصادقين( (يوسف 12/ 51)، وحين قال يوسف: )ذلك ليعلم أَني لم أَخُنْه بالغيب، وأنَّ الله لا يَهْدي كَيْدَ الخائنين، وما أُبَرِئُ نفسي( (يوسف 12/ 52 ـ 53).

    من هنا ثار السؤال حين تصور الآيات إنساناً ما يقول ليوسف: لماذا تبرئ نفسك…؟ لذلك عومل هذا الإنسان معاملة المنكر الجاحد إنكاراً قطعياً، لا متردداً؛ فألقي إليه الخبر على أنه خالي الذهن؛ أي: لمّا أحاطه بالإنكار الشديد المبرم استدعى الحكم في الجملة عدداً من المؤكدات مراعاة لمقتضى الحال… ومنها تتولد دلالات تخفي جملة من المكنونات النفسية والمعنوية البعيدة عند المتلقي قبل المتكلم؛ مما يضفي عليها طابعاً جمالياً ساحراً.

    وقد أدرك البلاغيون والأدباء مدى جمالية هذا الأسلوب في الخطاب، وافتراقه من غيره؛ وهو أسلوب جارٍ على بلاغة كلام العرب(3)، إذ يجعل فيه المتكلم مجال الإيحاء متجاوزاً الانطباعات المباشرة.

    ب ـ إنزال غير المنكر منزلة المنكر

    يعامل المتكلمُ المخاطب على أنه خالي الذهن، ولكنه ينزله منزلة المُنْكِر وإن لم يكن في الحقيقة مُنْكِراً… والمنكر لأي حكم يظهر عليه شيء من الإنكار في تصرفه أو قوله على نحو ما…

    لهذا يتخيل المتكلم مخاطباً ما منكراً لما سيلقي إليه من معلومة فيؤكد خبره إليه بعدد من المؤكدات تبعاً لحالة التصور الإنكاري ليتأكد هو أن إمارات الشك والإنكار قد زالت… فالمؤكدات ـ بهذا الفهم ـ ليست ضرباً من الزخرف الخارجي؛ وإنما هي تشكيل لغوي وظيفي بأسلوب جمالي بديع ندر وقوعه في غير لغتنا، وعليه قوله تعالى: )ثم خلقنا النُّطْفة عَلَقة، فخلقنا العلقة مُضْغَة، فخلقنا المضْغة عظاماً، فكَسَونا العظام لحماً؛ ثم أَنْشأناه خَلْقاً آخر، فتبارك الله أَحسنُ الخالقين* ثم إنكم بعد ذلك لميتون* ثم إنكم يوم القيامة تبعثون( (المؤمنون 23/ 14 ـ 16). وكيف نغفل الحديث عن جمالية النسق الحرفي المتدفق المثير الذي يصور الإنسان سادراً في غيّه؛ غافلاً عن ذِكْر ربِّه؛ متغابياً عن حقيقة البعث، وإن اعتقد بوجود الموت؟ فالنص ينزله منزلة المنكِر، لذا أورد عدداً من المؤكدات بقوله تعالى: )ثم إنكم بعد ذلك لميتون( (إن ـ واللام ـ وميِّتون) بدل (يموتون)…. ومن ثم قوله ثم إنكم يومَ القيامة تُبعثون. فكرر الحرف (ثم) ليدل على طبيعة المهلة والتراخي بعد الموت ولكن البعث واقع، فجاء بالتوكيد (إنكم)…

    فطبيعة الجملة تقدم محاكمة عقلية وفق قياس يتغير لتغير حالة الشعور والموقف للمخاطب.

    ويذكر بعض كتب البلاغة قول حَجَلة بن نَضْلة (أحد شعراء الأصمعيات) في هذا المقام(4):

    جاءَ شقيقٌ عارضاً رُمْحَهُ

    إنَّ بَني عَمِّكَ فيهم رماحُ

    فشقيق علا صهوة حصانه وجاء ساحة القوم، وقد عارض رمحه معارضة؛ مُدِلاًّ بشجاعته ومُظهراً شدة إعجابه بفروسيته وشخصه، اعتقاداً منه أن أي أحد من بني عمومته لا يجرؤ على مجابهته، فألقي إليه الخبر (إن بني عمك…) مؤكداً بـ إن ليزيل عنه علامات الإنكار والتوهم التي ظهرت في تصرفه وتصوره.

    وهذا يماثله قول الفرزدق حين مدح عبد الرحيم بن سليم الكلبي في قوله:

    وإنا ـ وكَلْباً ـ إِخوةٌ، بيننا عُرىً

    من العَقْدِ قد شَدَّ القُوى مَنْ يُغيرُها

    فالفرزدق يقف عند إرثه الثقافي والاجتماعي (تجربة الأحلاف بين القبائل) ليشيد بتجربة قومه في هذا؛ فيتخيل أقواماً ينكرون العلاقة الصادقة ببني كلب؛ وينزلهم منزلة المنكر، على الرغم من عدم وجودهم. ولهذا يستعمل المؤكدات (إنا… وقد…)؛ فالعلاقة بين الحيين متينة أحكم عقد صلاتها رجال حكماء أشداء… وكل بصير بالحقائق يكتشف أبعاد تلك الأخوة التي تغيب عن بال الناس العاديين.

    ج ـ إنزال المنكر منزلة غير المنكر

    قد ينزل المتكلم المخاطب المنكر لأي حكم منزلة غير المنكر؛ ويخاطبه على أنه خالي الذهن بخلاف مقتضى الظاهر، ومقتضى الحال… ويرى أن هذا الأسلوب يجعله أكثر ارتداعاً عن إنكاره.

    فالمتكلم في هذه الحال يلقي كلامه بلا توكيد، وإذا استدعى الخطاب توكيده فلا يزيد على مؤكد واحد من المؤكدات المعروفة لفظاً أو معنى… وعليه قوله تعالى: )ذلك الكتاب لا رَيْبَ فيه هُدىً للمتقين( (البقرة 2/ 2).

    فالخطاب الإلهي ينزل الكفار المعاندين المستكبرين منزلة من هو خالي الذهن، وغير المنكر للقرآن الكريم؛ فأُلقي إليهم الكلام بلا توكيد، على خلاف الظاهر لعلهم يعودون إلى رشدهم ويهتدون به.

    وهذا الأسلوب ينطبق عليه قوله تعالى: )ثم إنكم يوم القيامة تبعثون( (المؤمنون 23/ 16). فالمؤمنون لا ينكرون يوم القيامة، ولكن الغافلين والكفار ينكرونه لعدم وجود أدلته الظاهرة؛ فجاء الخطاب الإلهي ولم يكثر من التوكيد فأنزلهم منزلة من لا ينكر الخبر واستعمل الخبر واستعمل مؤكداً واحداً (إنكم) لعلهم يرتدعون عن إنكارهم.

    وعليه قولـه تعالى: )وإلهكم إلهٌ واحدٌ؛ لا إلهَ إلا هو الرحمن الرحيم( (البقرة 2/ 163) فالله ـ سبحانه ـ يخاطب منكري الوحدانية؛ ولكن الخطاب الإلهي أنزلهم منزلة من لا ينكر فلم يؤكد الخبر… وكذا نقول للكذاب: (الكذب حرام وبهتان وزور…) أو كقولنا للمسلم الشارب الخمر: (شرب الخمر حرام، وضَرَرُه كبير في الصحة والمال…).

    وقد يتبادر لذهن المتعجل الناظر في هذا الأسلوب باعتباره الشكلي الخارجي أنه ألقي للمخاطب غير المتردد؛ فيحكم عليه حكماً سريعاً؛ بيد أن جماليته المثيرة إنها تتجسد في التضاد الضّمني؛ بما يقوم عليه السياق الإيحائي الذي يعتمد على حال المتلقي. فالغرض منه ليس مطلق الإخبار كما هو في فائدة الخبر أو لازم الفائدة؛ بل غرضه تحريك النفس على حقيقة حال المتلقي بما انطوت عليه من إنكار شديد للحقيقة. ولمّا انحرف الأسلوب اللغوي عن استخدام المؤكدات التي تلائم حال الشديد الإنكار قدَّم جمالية بلاغية لا نظير لها. فصياغة التجربة الجديدة تصدر من مشكاة تجربة المتكلم مع المخاطب ودرايته بأحواله. ولهذا كثف تجربته بهذا الأسلوب اللغوي الموجز والمعبر الذي ينتفع به المتلقي أكثر مما ينتفع من الأسلوب الخبري الآخر المشحون بالمؤكدات.

    د ـ استعمال لفظ مكان لفظ بخلاف مقتضى الظاهر

    توقف عدد من اللغويين والبلاغيين القدماء في تأملاتهم لآيات القرآن الكريم عند عدد غير قليل من الألفاظ التي استعمل الخطاب الإلهي بعضاً منها مكان بعض بخلاف مقتضى الظاهر مراعاة لمقتضى الحال للمتكلم أو المخاطب، أو الواقع الحقيقي أو الفني وفق الغرض المقصود إيصاله إلى المخاطب…

    فقد ظهر عنوان (معاني القرآن) اسماً لعدد من الكتب التي تطرقت لذلك الباب؛ للفراء (ت 207هـ) والزجاج (ت 311هـ) والنحاس (ت 338 هـ)… كما عرض لـه ابن قتيبة (ت 276هـ) في كتابه (تأويل مشكل القرآن)؛ وابن فارس (ت 395هـ) في (الصاحبي)…

    ولما لمس فيه هؤلاء الأفذاذ بعض الجوانب اللغوية الدلالية اتجه الزمخشري فيه اتجاهاً بلاغياً تحليلياً في الكلمة المفردة وفي الجملة، فاستحق كتابه (الكشاف) اسمه بكل جدارة.

    ورأى هؤلاء وغيرهم أن اللفظ المثنى قد يراد به الواحد، وهو ما كان شائعاً عند العرب، وقد يراد باللفظ الواحد الجمع أو العكس… وربما يقع اللفظ الواحد مفرداً مرة وجمعاً مرة أخرى… أو يستعمل الفعل المضارع؛ ومقتضى الظاهر أن يكون ماضياً أو أمراً؛ والعكس صحيح… ولكل ذلك نكتة بلاغية على صعيد البنية اللغوية إيقاعاً وتصويراً يوحيان بفهم عميق وشعور متدفق بالموقف المعبَّر عنه.

    فمن سَعة العربية (كما يقول الفراء) إطلاق لفظ الاثنين ويراد به الواحد كما في قول امرئ القيس:

    خَليليَّ مُرَّا بي على أُمِّ جُنْدبِ

    نُقَضّي لُبَاناتِ الفُؤادِ المُعَذَّبِ

    ثم قال معبراً عن عمق إحساسه بالموقف الوجداني الذي ألمَّ به حين أتاها ليلاً:

    أَلمْ تَرَ أَني كلما جِئْتُ طارقاً

    وجَدْتُ بها طِيْباً وإِنْ لم تَطَيَّبِ؟!

    فرجع إلى الواحد وأول كلامه اثنان(5). وجاء كلام الفرَّاء هذا في معرض التعليق على بعض آيات القرآن كقوله تعالى: )يَخْرج منهما اللؤلؤ والمرجان( (الرحمن 55/ 22). إنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلْح لا من العذب، ولكنه استعمل (منهما) في اللفظ مثنى وأراد به الواحد وهو الماء المالح… فهي جملة خبرية استعمل فيها لفظ المثنى مقام المفرد على حين استعمل اللفظ المفرد مكان الجميع في قوله تعالى: )هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء( (البقرة 2/ 29). ويقول الزجاج: … والسماء لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع، والدليل على ذلك قوله عز وجل:

    )فسواهن سبع سموات(… من الآية نفسها. وأيد ذلك بعدد من الجمل الخبرية التي خرجت عن مقتضى الظاهر، وإن خالفه الأخفش في بعض منها(6).

    ويبدع الزَمخشري في هذا الاتجاه حين يتوقف عند قوله تعالى: )إنما وليكم الله والرسول( (المائدة ـ 5/ 55) فيقول: (فإن قلتَ: قد ذُكِرت جماعة فهلاّقيل: إنما أولياؤكم قلْتُ: أصل الكلام: إنما وليكم الله؛ فجُعلت الولاية لله على طريق الأصالة؛ ثم نظم في سلك في إثباتها لرسول الله (e) والمؤمنين على سبيل التَّبَع؛ ولو قيل: إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا، لم يكن في الظلام أصل وتبع(7).

    ومن التعليقات البلاغية الجميلة في مجال النظر والتطبيق ما جاء في حديثه عن الصلاة؛ مفردة، والصلوات، جمعاً في سورة المؤمنون: )قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون( (المؤمنون 23/ 1). فالسياق اللفظي يقتضي أن يكون لفظ (الصلاة) مجموعاً للحديث عن المؤمنين؛ ولكنهم لمَّا وُصِفُوا بالخشوع في صلاتهم… وحِّدت ليُفاد الخشوع في جنس الصلاة؛ أي صلاة كانت وأُرِيد بها الجميع على المعنى المراد ذلك… أما قوله تعالى: )والذين هم على صلواتهم يحافظون( (المؤمنون 23/ 9) فقد جاء اللفظ موافقاً للجمع مع المؤمنين؛ لأنه أريد المحافظة على الصلوات الخمس وألا يسهوا عنها، ويؤدوها في أوقاتها ويقيموا أركانها ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها؛ وبما ينبغي أن تتم به أوصافهم(8).

    وفي هذا المقام يمكن أن توضح الاكتشافات العلمية التي جرت على الإنسان فيزيولوجياً حقيقة الإعجاز اللغوي والبلاغي للنسق القرآني وتفرده من بقية الكلام المؤلف…

    فقد جمع سبحانه وتعالى اللفظ المفرد والمجموع في قوله: )وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون( (النحل 16/ 78).

    فالشكر في دوامه يقود إلى الوعي بالشيء وفهم حقيقته من قبل المخاطب؛ كما يوضحه الفعل المضارع (يشكرون)، ثم تأتي الأداة (لعل) لتفيد الرجاء بدوام ذلك… أما إذا نظر البلاغي إلى استخدام كلمة (السمع) وجد أنها مفردة، على حين جاءت كلمة (الأَبصار والأفئدة) جمعاً… ويتساءل المرء: لم وقع ذلك؟ ويأتي الجواب من التأمل العلمي في مراكز الحواس والقلب… فمركز السمع واحد في الدماغ دون غيره؛ ولهذا ورد اللفظ بصيغة الإفراد؛ بينما مراكز الأبصار والأفئدة متعددة وغير محصورة في الدماغ، فعلم الفيزياء يقول: تتعدد البقع الضوئية لتمثل الصورة البصرية بوساطة العينين؛… وهذا يؤدي بالنتيجة لتعدد مراكز الفؤاد (القلب) المرتبط بالسمع والبصر معاً… فَضلاً عن اضطرام الأعصاب وتعددها في القلب؛ علماً أن الفؤاد في اللغة من الفَأَد وهو توقد النار(9). ولا تضطرم الأفئدة إلا بعد تأثر مركز السمع في الدماغ والمراكز البصرية المتعددة.

    وقد يقول قائل: لماذا جاءت الألفاظ الثلاثة السابقة مفردة كلها؛ كما هو عليه قوله تعالى: )ولا تَقفُ ما ليس لكَ به عِلْم؛ إنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً( (الإسراء 17/ 36) وكلها قد جاءت مرتبة على ترتيب واحد كما هو في الآية السابقة؟!.

    إن المتأمل في السياق القرآني للنصين يلحظ بدقة الفوارق البلاغية والمعنوية بين كل منهما. فالآية الثانية تتحدث عن (العلم) الذي يتم بالإدراك، والعلم أو الإدراك في اللفظ مفرد وليس جمعاً… والعلم يقع بالإدراك بطريق حاسة السمع وحاسة البصر؛ ثم يوكل إلى الفؤاد بما ينتج عنهما؛ لأنّه مركز عواطف المرء وأفكاره فرحاً وترحاً، رهباً وطمعاً… و… ويؤكده قوله تعالى: )وأصبح فُؤَادُ أُمِّ موسى فارغاً( (القصص 28/ 10). ولهذا نردُّ الفعل الغريزي للعلم بالشيء إلى الإدراك، وكلاهما مفرد في اللفظ، ولذلك جُعل الإفراد موجباً لهما في قوله تعالى: )إن السَّمْعَ والبصر(. فالنقلة السريعة في الجملة من لفظ مفرد إلى غيره إنما هي نقلة نفسية تكسر رتابة الإيقاع وجمود النسق اللغوي على شكل واحد.

    ويعدُّ استعمال فعل مكان فعل؛ أو فعل مكان اسم، أو العكس أو استعمال اسم مكان اسم بخلاف مقتضى الظاهر من أعظم الأمور البلاغية في القرآن الكريم وفي كلام العرب… ففي قوله تعالى: )إن الذين كفروا ويَصُدُّون عن سبيل الله( (الحج 22/ 25) استعمل الفعل المضارع (يصدون) مع الماضي (كفروا) ومقتضى الظاهر أن يكون (صدوا)، وكذلك واقع القوم في حالتهم الراهنة؛ ولكن الفراء يقول: (الصّدُّ منهم كالدائم، فكأنك قلت: إن الذين كفروا من شأنهم الصَّدُّ)(10).

    لهذا اختير الفعل المضارع لإفادة الدوام والاستمرار بالصد بخلاف مقتضى الظاهر.

    وقد يقتضي الظاهر استعمال فعل أمر مكان مضارع لدلالة مقتضى الظاهر عليه كقوله تعالى: )والوالدات يُرْضِعْن أَولادَهُنَّ حَوْلين كاملين( (البقرة 2/ 233). ويفسر لنا الزجاج هذه القضية فيقول: (اللفظ لفظ الخبر، والمعنى: الأمر، كما تقول: حسبك درهم؛ فلفظه لفظ الخبر، ومعناه: اكتفِ بدرهم؛ وكذلك معنى الآية: لترضع الوالدات).

    وهذا يعني خروج اللفظ بخلاف مقتضى الظاهر…(11).

    وربما استعمل المضارع بمعنى اسم الفاعل على الحال كما في قوله تعالى: )إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق( (ص 38/ 18) فيكون بخلاف الظاهر…

    يقول الزمخشري: يسبحن بمعنى مسبّحات على الحال؛ فإن قلت: هل من فرق بين يسبّحن ومسبّحات؛ قلت: نعم، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك؛ وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء، وحالاً بعد حال؛ كأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح. ومثله قول الأعشى:

    لعَمْرِي لقَدْ لاحَتْ عُيونٌ كثيرةٌ

    إلى ضَوْءِ نارٍ في يَفَاعٍ تُحَرِّقُ

    ولو قال: محرقة؛ لم تكن شيئاً(12).

    وقد يقع اللفظ أياً كان بخلاف مقتضى الظاهر وتبعاً لتصور المتكلم لحال المخاطب؛ فقد يكون خبراً والمعنى بخلافه كأن يكون شرطاً وجزاءً كقوله تعالى: )الطَّلاقُ مَرَّتان فإمساكٌ بمعروف أو تَسْريحٌ بإحسان( (البقرة 2/229)؛ أي مَنْ طلق امرأته مرتين فليمسكها بعد ذلك بمعروف أو عليه أن يفصم عرى الزوجية بإحسان(13).

    هكذا تبينا أن خروج اللفظ عن مقتضى الظاهر وَفْق تصور المتكلم لحال المخاطب يعد أسلوباً رابعاً في خروج الخبر عن مقتضى الظاهر… وهو أسلوب بلاغي جمالي، ثم أسلوب نقدي يثير دلالات لا تنحصر ولا ينقدح الفهم فيها إلا لذوي السلائق الذين أُوتوا سَعَة في العلم وبَسْطة في معرفة القواعد الثابتة وغيرها… ولعل هذا يبرز امتلاك هؤلاء للذوق المرهف الذي تحتاج إليه الأغراض المجازية للخبر، وهي لا تتصل بمقتضى الظاهر أو بخلافه؛ كما يأتي.

    ثالثاً ـ الأغراض المجازية وأساليبها:

    إن الرؤية الجمالية البلاغية عند العرب ظلت مشدودة في تناسقها ووحدتها ووظيفتها إلى الرؤية الجزئية المجسدة في صورة الجملة، وفي أحسن الحالات في البيت وسياقه أو في عدد قليل من الأبيات. ولعل جمالية التساوق البلاغي لأغراض الخبر المجازية ترتبط بالهدف الذي يرمي إليه المتكلم من وراء الجملة الخبرية وإخراجها بصورة فنية مغايرة تماماً لما عرفناه من قبل. فهو لا يخرجها على مقتضى الظاهر كالفائدة ولازم الفائدة، ولا يخرجها بخلاف مقتضى الظاهر… وعلى المتلقي أن يستشف ذلك من السياق؛ ويلمحه في قرائن الأحوال بما يمتلكه من ذوق فني ورهافة حس. فالعلاقة الفنية بين أسلوب الجملة الخبرية وهدفها في الأغراض المجازية تشهد بالديباجة الممتعة، والرونق البهي في السبك وصفاً وبرهاناً وإيضاحاً موحياً… وتدل على نمو العلاقة الترابطية البنيوية بينها وبين الأشكال التعبيرية المتعددة التي تخدم سياق الهدف من الأسلوب المجازي الخبري… وبهذا تؤسس لعلاقة المتلقي بها في ضوء الارتباط النفسي والفكري في وقت واحد…

    ومن هنا تنبع الوظائف التي تقدمها الجملة الخبرية وتقدم جماليتها في ضوء صلتها بالمخيلة الفنية للقائل وتمثل في الوقت نفسه روح العصر وثقافته… وكيف انتهت إلى أيدي البلاغيين فوضعوا لها المعايير البلاغية… فأجادوا تارة كما نراه عند عبد القاهر الجرجاني؛ وجمدوا قوالبها الفنية تارة أخرى حين أسسوا لها معايير ضابطة كما هي عند السكاكي؛ علماً أن الفن لا يتقيد بمعايير محددة وقوانين صارمة. وهذا عينه هو الذي توحيه الأغراض المجازية؛ التي يظن في بادئ الأمر أنها شديدة الشبه بخروج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر الذي رسمه البلاغيون.

    ونبدأ بهذه الأغراض من آخر وجه في الأغراض السابقة لنلمح فيها المغايرة في الهدف والوسيلة.

    1ـ الأمر:

    هو صيغة من صيغ الإنشاء يطلب فيه المتكلم من المخاطب تنفيذ فعل ما على صفة الإيجاب في الفعل والتزام المخاطب به… وهو يفيد في الإنشاء طلب تنفيذ أمر بعد إلقائه؛ وكذلك هو في أسلوب الخبر؛ الذي ينزاح إلى فعل مضارع أو غيره… فإذا عُدل إلى المضارع رمى منه المتكلم إلى إلغاء الحدود الزمانية؛ إذ أصبح الأمر المجازي في الجملة الخبرية تجربة إنسانية مستمرة… وهذه هي الجمالية المثيرة لـه في انزياح التركيب اللغوي عمّا هو عليه كقوله تعالى: )والوالداتُ يُرضِعْنَ أَولادَهُنَّ حَوْلين كاملين لمَنْ أَراد أَنْ يُتمَّ الرَّضَاعة( (البقرة 2/ 233). والمقصود (لترضع الوالدات أولادهن حولين كاملين…) وهذا يدل على أن الكلام لم يخرج بخلاف مقتضى الظاهر… وكذلك قوله تعالى: )والمطلقاتُ يتربَّصْنَ بأنفسهنَّ ثلاثةَ قُروء( (البقرة 2/ 228)؛ أي (فليتربَّصن). قال الزمخشري: وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يُخبر عنه موجوداً. ونحوه قولهم في الدعاء: (رحمك الله)؛ أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة كأنما وجدت الرحمة عنها؛ وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فَضْلُ تأكيدٍ؛ ولو قيل: ويتربص المطلقات لم يكن بتلك الوكادة(14). فالسياق البلاغي نقل الفعل المضارع الذي يفيد الزمن الحضوري إلى الزمن المطلق لكل امرأة ذات ولد… إنه أمرٌ لها بما ينبغي أن تفعله في كل زمان ومكان… وهذه هي الجمالية البديعة.

    2ـ النهي:

    هذا أيضاً أسلوب آخر من أساليب الإنشاء؛ ويُطْلب فيه الكف عن أمرٍ ما؛ ولكنه إذا استعمل في الجملة الخبرية فإنه يحمل إثارة خاصة بالاستعمال اللغوي المغاير… فالدلالة تنبثق من زاوية الرؤية البعيدة المقترنة بالسياق، وما تنتهي إليه من وظائف وغايات.

    وعليه قوله تعالى: )لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُون( (الواقعة 56/ 79)؛ والصفة راجعة إلى القرآن الكريم وإلى من يمسك به ويتدبره؛ فالمعنى لا ينبغي أن يَمَسَّه إلا ما هو على الطهارة من الناس؛ يعني مس المكتوب منه؛ ومن الناس من حمله على القراءة أيضاً(15).

    من هنا ظهرت الأهداف من وراء النَّهي في أسلوب الجملة الخبرية ونحوه قول رسول الله e: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه؛ أي لا ينبغي لـه أن يظلمه أو يسلمه(16)، ولو جاء على الأصل لقال: لا تظلم أخاك المسلم ولا تسلمه إلى العدو.

    فالجملة بما بنيت عليه من مسند ومسند إليه كانت مليئة بالرموز والإشارات لهذا اكتفت بالقليل من الروابط الموحية لسياق النَّهي… وهو سياق لم يكتف بإنارة العقل وتعليمه كيفية التعامل مع القرآن الكريم؛ أو كيفية تعامل الناس بعضهم مع بعض؛ وإنما أرسى في بنيته إثارة للانفعال النفسي إذا لم يكن صاحبه كذلك. فالانحراف في الأسلوب الخبري لم يكن تحولاً عارضاً أو معيارياً بل هو انزياح بلاغي تصويري لحالات النفس التي تختزن عواطف شتى يستجيب لها المخاطب بكل جوارحه.

    3ـ التمني:

    يتقدم الأسلوب الخبري خطوة أخرى حين يخرج الكلام إلى أحد أساليب الإنشاء؛ فالتمني طلب أمر ما على جهة الرغبة في حصوله وإن كان وقوعه ممتنعاً إما لاستحالته، وإما لبعد وقوعه… وتفيد الجملة الخبرية بهذا المقام وكأن التمني قريب من الحدوث. ولهذا لا يُكْتَفى باستعمال فعل (وَدَّ) وصيغه، وهي مما يكثر في هذا المجال ولكن تستعمل ألفاظ أخرى فيها دلالة إمكان حدوث الفعل، كقولنا: أطمع ربِّ أن تغفر لي؛ وكقوله تعالى: )ونطمع أن يُدْخلنَا رَبُّنا مع القوم الصالحين( (المائدة 5/ 84).

    إنهم يطمعون في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين… على وجه التمنّي، ولكنه لن يكون.

    وترتبط الرغبة في شيء ما بالدعاء كما هو قول ساعدة بن جُؤَيَّة:

    أَلاَ قالتْ أمامةُ إِذْ رأَتْني

    لِشَانِئِكَ الضَّرَاعةُ والكُلولُ

    فهذه المرأة تمنت أن يصاب كل من يبغض ساعدة بالمصائب والدواهي، والتصاغر…

    ويظل فعل (ودَّ) أكثر استعمالاً في هذا المقام كقولنا: (وددت أن تأتي)؛ وقال تعالى: )تودُّون أن غيرَ ذاتِ الشَّوْكة تكون لكم( (الأنفال 8/ 7) قال الزمخشري: تتمنون أن تكون لكم العِيْر لأنها الطائفة التي لا حِدَّة لها ولا شدة، ولا تريدون الطائفة الأخرى(17)، المجهزة بالرجال والسلاح.

    فالجمالية البلاغية في الجملة الخبرية التي تهدف إلى التمني تكمن في الخيال الرحب الذي تختزنه؛ وفي التصور النفسي الذي تحتفظ به.

    4 ـ النفي:

    النفي أحد أساليب الإنشاء غير الطلبي؛ ويفيد إخراج الفعل من صفة الحدوث؛ لأن الحدوث إيجاب على صفة الإطلاق… ولكن النفي يفيد اتجاهاً جمالياً مثيراً إذا استعمل في الجملة الخبرية، وقد أبدع عبد القاهر الجرجاني في الحديث عن ذلك حين تعرض لبعض الآيات القرآنية التي تفيد النفي الضمني كقولـه تعالى: )إنَّما يتذكر أولو الألباب( الرعد 13/ 19). فهذا التعريض إنما وقع بأن كان من شأن (إنما) أن تضمِّن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات، والتصريح بامتناع التذكر ممن لا يعقل(18)، وعليه قولنا: إنما أنت حالم، وعكسه قوله (ما المستشير بنادم)، ومثله قوله تعالى: )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل( (آل عمران 3/ 144)، فالغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه(19)، ولهذا جاء النفي ثم نُقض بالحصر فأفاد الإثبات وتأكيد المعنى المجازي للجملة الخبرية، وعليه قوله تعالى: )ذلك بما قدمت أيديكم وأنَّ الله ليس بظلام للعبيد( (آل عمران 3/ 182) فقد يقول قائل: لِمَ عطف كلاماً منفياً على كلام مثبت؟! قلت: معنى كونه غير ظلام للعبيد أنه عادل عليهم(20)، فالمضمون والهدف من النفي إنما هو للإثبات، وشبيه به في الأسلوب ما قاله المتنبي:

    وما كُلُّ هاوٍ للجميلِ بفَاعلٍ

    ولا كُلُّ فَعَّالٍ لـه بمُتَمِّم

    والمعنى: (ليس كل مَنْ أحبَّ الأمر الجميل يصنعه، ولا كل من يصنعه يتممه)… فالسياق في الجملة خبري؛ يوحي بالإثبات؛ بيد أن المراد منه هو النفي.

    5ـ الدعاء:

    هذا أسلوب آخر من أساليب الإنشاء ـ والدعاء ـ كما قلناـ: النداء؛ ولكنه يستعمل في صيغة الخبر، وله أشكال عدة، فهو مع الله تضّرع وابتهال و… كقولنا: رحمك الله؛ وعفا الله عنك؛ وأرشدك الله؛ أي زادك رُشْداً، وعليه قول كعب بن زهير في مدح الرسول الكريم:

    مَهْلاً هَدَاكَ الذي أعطاكَ نافلةَ

    القرآنِ فيها مواعيظٌ وتفصيلُ

    وعليه قوله تعالى في صفة المؤمنين: )إيَّاكَ نَعْبد، وإيَّاكَ نَسْتَعين( (الفاتحة 1/ 5) أي (أَعِنَّا دائماً على عبادتك، واستمرار العون في طاعتك…) وإذا توجه المتكلم بالدعاء إلى الممدوح فهو يرجو لـه البقاء أو دوام الصحة؛ وقد يدعو لـه بألا يأتيه شيء يسيئه… ويستحق ذلك فهو لم يفعل شيئاً يُذمّ عليه كما في الدعاء المشهور (أبيتَ اللعن)؛ وعليه مدح النابغة للنُعْمان بن المنذر:

    أَتاني ـ أَبَيْتَ اللَّعْنَ ـ أَنَّكَ لُمْتني

    وتلكَ الَّتي أَهْتمُّ منها وأَنْصَبُ

    فإذا كانت الجملة في رأي عدد من العلماء شرقاً وغرباً هي أصغر وحدة مفيدة بنفسها للخطاب(21) فإن الجملة الدعائية التي وردت في ذلك كله مثل (أبيت اللعن، رحمك الله… أبقاك الله؛ حفظك الله…) ترتسم فيها ملامح الجمال المثير بهذا التركيب الموجز، فضلاً عن سماتها البلاغية الموحية والمعبرة عن وظيفة نفسية وحاجة اجتماعية… فهي تموج بشحنة عاطفية عالية تقوم على الابتهال والاستعطاف… فالممارسة الاجتماعية والدينية صورة متضمنة في النسق الدعائي. فأسلوب الدعاء في الجملة الخبرية يقدم وظائف متنوعة كتنوع أنماطه، ولو ظهر أحادي النمط بصفته تركيباً موجزاً… فالتفصيل والتوضيح الذي خرج إليه كعب بن زهير في تفسير ماهية الدعاء أخرجه عن نمطية الجملة القصيرة التي يؤثرها أسلوب الدعاء؛ أياً كانت طريقته إنشاءً أم خبراً، وذلك ما نراه أيضاً في أسلوب التعظيم والتنزيه، والتعظيم جعل الشيء أو الإنسان عظيماً، والتنزيه جعلهما نزيهاً؛ أي طاهراً ومبرأً من كل إثم أو عيب أو قبيح…

    6ـ التعظيم والتنزيه:

    يعدُّ المستوى اللغوي والتركيبي غنياً بمجالات دلالية مثيرة؛ ما جعل البلاغيين يتأملون أسلوب الخبر بصفته البلاغية قبل أن يكون صورة لغوية أو نحوية، وبهذا كانوا يرون التركيب مستوىً أول، وهو ركيزتهم إلى مستوى أعلى يرتقي المتلقي بفهمه واستيعابه إلى إدراك جماليات كبرى. فالمجال البلاغي أوسع بكثير من المجال اللغوي والنحوي؛ لِمَا ينطوي عليه من معارف وإشارات بعيدة كالتعظيم والتنزيه في الأسلوب الخبري.

    ولذا نرى أن الممدوح صاحب المنزلة الخاصة يمكن أن يبجَّل ويكرم على الحقيقة؛ كأن نخاطب سيداً أخطأ عبده بحقّه: (أنت أرفع من أن تنزل إلى مستوى عبدٍ ذليل)؛ ولكن هذا الأسلوب غير بديع؛ وليس فيه قيمة جمالية… ولهذا يخرج الأسلوب الخبري في التعظيم إلى صور جمالية عند المتكلم على نحو من الأنحاء؛ كما نراه عند الكثير من الشعراء المادحين قديماً وحديثاً؛ ليخلق في النفس العديد من الانفعالات؛ ويثير فيها التأمل؛ ولو بالغ صاحبه فيه؛ كقول الأعشى يفتخر بقومه(22):

    إِنّي امرُؤٌ من عُصْبةٍ قَيْسيَّةٍ

    شُمِّ الأُنوف؛ غَرانِقٍ أحشادِ

    الواطئين على صُدور نِعالِهمْ

    يمشون في الدَّفَنيِّ والأَبْرادِ

    والضامنين بقومهم يومَ الوَغى

    للحَمْد يوم تنازلٍ وطِرادِ

    كم فيهم من فارسٍ يوم الوغى

    ثَقْفِ اليدين يُهِلُّ بالإِقصادِ

    فهذه صورة من التفاخر تدل على تعظيم أفراد قومه وتبالغ في ذلك التمجيد من تعداد مآثرهم مستعملاً الجملة الخبرية التي تفيد التقرير والتأكيد… وكذلك وجدنا هذا الأسلوب فعّالاً في مدح النابغة الذبياني للغساسنة؛ حيث يقول:

    مَحَلَّتُهُم ذاتُ الإله ودِينُهُمْ

    قَويمٌ؛ فما يَرْجونَ غَيْرَ العَواقبِ

    فقد وصفهم وصفاً رفيعاً يشي بمدى تمسكهم بطاعة الله والدفاع عن دينه لا يرجون سبيلاً غير ذلك…

    هكذا رأينا أن التعظيم في الناس قد يدخله التكلف والتنزيه الزائف؛ ولكنه إذا جاء في أسلوب خبري موجه إلى الله أدَّى معنى التنزيه والتطهر من أدران الدنيا حقاً؛ وصار التوجه إلى تعظيم الخالق وإجلاله دافِعاً شخصياً ذاتياً لا علاقة لـه بالدافع الاجتماعي، أو النفعي الذي يحرك الناس كما مثَّلنا لـه سابقاً، إنه يختلف عن قولنا: (سبحان الله؛ الحمد لله؛ الشكر لله؛ ولك الحمد كما ينبغي لوجهك الكريم… ولكَ العُتْبى حتى ترضى…) فهنا نجد أدعية ابتهالية قائمة على تعظيم الإله؛ وعليه قوله تعالى: )فسبحان الله رب العرش عما يصفون( (الأنبياء 21/ 22). فهذه الجملة تنزه الله سبحانه عن وصف المشركين له؛ حين جعلوا لـه شركاء من الأصنام، وكقوله: )إن الله اصطفاكِ وطَهَّرَكِ واصطفاكِ على نساءِ العالمين( (آل عمران: 3/ 42). فالله سبحانه اختص مريم بالكرامة السنية ونزهها عن الأفعال القذرة التي كان اليهود يقترفونها، وطهرها منها جميعاً.

    وفي ضوء ما تقدم ندرك أن المستوى التركيبي اللغوي يختزن دلالات كثيرة؛ ولكن إثارته لا تكمن فقط في نظام كلماته؛ ومضمُونها، وإنما فيما ترسيه في أنفسنا من مواقف إنسانية جوهرية ترتفع بالنفس عن الدنايا والشر، ولا سيما حين تصوّر المثال الإنساني النقي. وبهذا يصبح التشكيل البلاغي الجمالي وسيلة إلى استخراج الباطن من عملية التصوير؛ وهذا ما نراه فيما يأتي.

    7ـ الوَعْد:

    كلمة الوَعْد بنظام حروفها ليست مجرد علامة لغوية؛ وإنّما تمتلك طاقة كبيرة من المدركات والمعارف؛ لأنها استخدمت في الخَيْر؛ فتحوّلت ـ غالباً ـ عن التهديد والشر إلى الخير. فزيادة حرف الياء في كلمة (الوعد) ينقلها من مفهوم إلى آخر… ولهذا فالوعد تختلف دلالة عن الوعيد.

    والوعد من المصادر المجموعة؛ وفعله وَعَد، يَعِد؛ ومثله المصدر (عِدَة) كقول الشاعر:

    إٍِن الخليطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فانجردوا

    وأخلفوك عِدَى الأَمْرِ الذي وَعَدوا

    فالشاعر كان ينتظر خيراً يرجوه في لقائه بأحبَّته، ولكنهم أَخلفوا ما وعدوه به… وساق هذا التفصيل في سياق خبري لافت للنظر… وموحٍ بصور جمالية مؤثرة.

    ولم تقف الجملة الخبرية عند استعمال ألفاظ الوعد وإنما استعملت جملة من الألفاظ الحاملة لدلالته، ولا سيما ما يرتبط بحرفي (السين) و(سوف)… ومالت اللغة إلى استعمال (السين) بالوعد، و(سوف) بالوعيد؛ بيد أن القرآن الكريم استخدمهما في الوعيد والوعد على السواء.

    وبهذا أكد كثافة ما يختزنه الحرف من شحنة عاطفية وفكرية يوضحها السياق، ما يؤكد لنا أن الرؤية الجمالية للكلمة تخلق تصوراً لا متناهياً في التركيب اللغوي والسياقي… وعليه قوله تعالى: )ولسوف يعطيك ربك فترضى( (الضحى 93/ 5). فكلمة (سوف) في سياقها أفادت الرجاء والوعد المنتظر من الله لرسوله؛ وهو انتصار في الدنيا على الكافرين، وفوز لـه وللمؤمنين في الآخرة بجنات النعيم… وعليه قوله تعالى: )فسوف نؤتيه أجراً عظيماً( (النساء 4/ 114).

    وقولـه: )وسوف يؤتِ الله المؤمنين أَجْراً عظيماً( (النساء 4/ 146). وكذلك استخدمت (السين) في قوله تعالى: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أَنفسهم حتى يتبيَّنَ لهم أنَّه الحقُّ( (فصلت: 41/ 53). قال الزمخشري: يعني ما يُسِرّ الله (عَزَّ وَجَلَّ) لرسوله e وللخلفاء من بعده ونُصّار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموماً وفي باحة العرب خصوصاً من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم(23).

    8ـ الوعيد:

    هذا غرض شديد الالتصاق بالسابق ولكنه يقوم على التَّضاد معه في الدلالة على اشتقاقهما من مادة واحدة وهي الوعد؛ ولكنه تحوّل عنها إلي الوعيد؛ وفعْله أَوْعَد، يُوعِدُ.

    وقد ترك علم اللغة القديم والحديث صوراً بديعة في تعرف بناء الكلمات، وما تقوم عليه من معارف وتجارب انتهت إلى نظام بلاغي مثير. فالوجود اللغوي ليس مجرد كلام طارئ وإنما هو دلالة في ذاته على تغير بنيته… وهذا ما تفيده كلمة (الوعيد). فزيادة حرف على كلمة (الوعد) نقلها من الخير إلى الشر، وصارت تستعمل للإنذار والتهديد بالشر؛ ومثلها التوعّد والإيعاد. وبهذا لم تكتف الكلمة بأن تكون مجرد علامة لغوية كما يقول أصحاب اللسانيات الحديثة، ما يجعلها مادة لينة بيد المفسرين… وبمعنى آخر قد تغدو نظاماً مفتوحاً فوضوياً بيد المتلقي يتصرف فيه كما يشاء… ما يَعْني أن نُلغي منه صورة التجربة الذاتية والاجتماعية، ومن ثم صورة

    #1414657
    ميرام
    مشارك

    اخى العزيز ارى انك مهتم بدراسة اللغة بل وتعمقت فيما يطرح فيها وهذا رائع فهو مجال تخصصى بل وعشقى ايضا فشكراااااااااا لك على الموضوع الرائع والقيم

    #1426261

    شكرا لكى اختى كثير الشكر

    #1426262

    شكرا لكل ما قدم وضحى من اجل كتابة رسلة لمواضيعى

مشاهدة 4 مشاركات - 1 إلى 4 (من مجموع 4)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد