الرئيسية منتديات مجلس الثقافة العامة التبليغ والدعوة.. الخصوصية الهندية وتحديات زمن الحداثة

مشاهدة مشاركة واحدة (من مجموع 1)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #122813

    جماعة التبليغ والدعوة واحدة من أكبر الجماعات الإسلامية في العالم من حيث عدد المنتمين لها، وبرغم أنها نشأت في الهند فإن لها تمثيلا في جميع القارات، وينخرط فيها مسلمون مهاجرون في أغلب دول العالم، ولا يزال مركزها الرئيسي في نظام الدين في العاصمة نيودلهي.

    تعمل الحركة على المستوى الشعبي، ولا تكترث بالأوضاع السياسية أو المشكلات الدولية، وهي تعتني بالجهاد الأكبر (جهاد النفس) معتبرة إياه الخطوة الأهم على طريق إصلاح جميع مشكلات الحياة.

    وبوسع المنضمين الجدد في جماعة التبليغ بين عشية وضحاها أن يتحولوا من هدف كانت تسعى الجماعة إلى تبليغه إلى أعضاء جدد فاعلين، وبمقدور الواحد منهم أن يمتلك أدوات التغيير والتأثير.

    عشرات الكتب ومئات المقالات قدمت عن الجماعة بين التأييد والرفض، وتهدف المقاربة الحالية إلى تلمس الخصوصية الهندية في تاريخ هذه الجماعة التي تشكل جزءا مهما من أطياف العمل الإسلامي المعاصر.

    النشأة

    أسس مولانا محمد إلياس الكندهلوي (1885-1944) جماعة التبليغ في النصف الأول من القرن العشرين، برغم أنها لا توصف كحركة صوفية خالصة، لكنها ظهرت كإصلاح في النهج الصوفي الذي كانت قد بادرت به مدرسة دار العلوم في ديوباند.

    بدأت جماعة التبليغ في عشرينيات القرن العشرين في منطقة ميوات إلى الجنوب من دلهي، وذلك في مجتمع من الفلاحين المعروفين باسم الميو. بدأ نشاط مولانا إلياس في منطقة ميوات متضمنا أجزاء كبيرة من منطقتي ألواي وبهاراتبور (راجستان) ومنطقة فريد آباد (هريانا).

    قبل قيام جماعة التبليغ كان المجتمع الإسلامي في المناطق التي تعرف اليوم باسم ولايات أوتار براديش وراجستان وهريانا يتسم بمزيج من الثقافيتين الهندوسية والإسلامية؛ حيث كانت شرائح من السكان المسلمين تقدس الآلهة الهندوسية، وتزور المعابد الهندوسية أكثر من اهتمامها بالصلاة في المساجد، بل كانت قراءة ملحمتي الراميانا والمهابهارتيا الهندوسيتين أكثر شهرة من قراءة القرآن.

    وكان هذا الوضع هو الذي دفع مولانا إلياس إلى السعي إلى استعادة هؤلاء المسلمين المهددين بذوبان عقيدتهم وسط التأثير الهندوسي.

    ومع تبلور المشاعر القومية قبيل وبعد تقسيم الهند في 1947 صارت الفرصة مهيأة أكبر لسكان موات للتقارب مع جماعة التبليغ، وتمييز هويتهم الإسلامية، خاصة بعدما تعرضوا لمذابح أوقعت آلاف القتلى بين المسلمين بسبب الحرب الأهلية زمن التقسيم.

    ويعكس التراث الفكري لمحمد إلياس (من خلال ما كتبه أو ما ألقاه من خطب وأحاديث شفهية في ما يعرف باسم المكتوبات والملفوظات) نمطا من الكتابة التي يحسبها بعض الدارسين على المنهج الصوفي الساعي إلى دعوة المسلمين إلى الرجوع إلى دينهم من خلال إصلاح الفرد أولا، ولم تكن كتاباته تختلف عن المجددين المصلحين في مطلع القرن العشرين في الهند، ومن بينهم رواد مدرسة ديوباند وغيرهم، وإن اختلفت الطرق والمسالك.

    المبادئ المؤسسة

    كان هدف مولانا محمد إلياس الأول هو تمييز المسلمين عن غيرهم (خاصة الهندوس) كجزء من مشروع أوسع لتكوين المجتمع المتآخي القائم على شهادة التوحيد، والالتزام بالصلاة المفروضة، وتحصيل ونشر التعليم، وأولوية التعليم الديني على التعليم الحكومي العلماني، وحفاظ الرجال على المظهر والسلوك الإسلامي، والتزام النساء الحشمة في ملابسهن، فضلا عن الدعوة إلى الاهتمام بالطهارة، والالتزام بالتقاليد الإسلامية والتخلص من موروثات التقاليد الهندوسية.

    كما أكد مولانا محمد إلياس أن العمل بالتبليغ لا يختص به علماء الدين فحسب، بل واجب على كل مسلم، وإن استلزم ذلك ترك أهله ووطنه والسفر إلى أصقاع بعيدة لأداء هذه المهمة.

    أعلت جماعة التبليغ قيمة الوقت وحسن استغلاله، وحذرت أتباعها من إهداره، وكانت واحدة من أولى الحركات التي دربت منتسبيها على مفهوم إدارة الوقت وقياسه وتخصيصه لكل ما هو مفيد.

    أعد مولانا محمد إلياس خرائط لكل الأقسام الفرعية لميوات والمناطق المحيطة بها، وحدد الاتجاهات والطرق, وكتب توجيهات للدعاة, وأعد تقديرا بسكان القرى, والمسافات وأسماء المحلات الريفية, بينما يمكن تسميته اليوم بقاعدة بيانات جغرافية لمقاصد الدعوة والتبليغ.

    ومنذ بداية نشأتها حرصت جماعة التبليغ على الدعوة إلى ترشيد النفقات في بعض المناسبات، مثل الزواج الذي كان يعتبر إسرافا وسوء سلوك يجب ألا يصدر عن المسلمين، كما سعت الحركة إلى تنظيم سلوكيات النساء اللائي كن يخرجن في رحلة ليلية جماعية للتغوط في الحقول والمساحات الخالية خارج القرى، ودعمت الجماعة في سبيل ذلك حملة لبناء دورات مياه خاصة في كل بيت.

    وتميزت جماعة التبليغ على مستوى العالم بتركها قيادة الجماعات لأناس بسطاء لا وجاهة أو مركز لهم، وأصبحت السلطة الممنوحة للأفراد المنضمين للجماعة ذات دلالة على تناغم أفكار المساواة، خاصة في مجتمع هندي يقوم على الترتيب الطبقي، وتمييز الناس بشكل اجتماعي وديني صارخ.

    قدمت الجماعة بهذا الشكل مثالا فريدا على الهيكل الأفقي من خلال التركيز على قيادة الناس العاديين لا على السلطة الرأسية الممنوحة للعلماء أو الوجهاء أو ذوي الدرجات العلمية أو الإدارية في الدولة.

    وبرغم أن جماعة التبليغ -مثل غيرها من حركات الإحياء الذاتي في ذلك الوقت- قد استفادت من بعض التقنيات الحديثة آنذاك، وفي مقدمتها الطباعة والخرائط والإحصاءات، فإنها ما تزال واحدة من الحركات الإسلامية القليلة التي لا تعتمد على وسائل الاتصال الحديثة من صحف أو دوريات أو قنوات فضائية أو برامج تليفزيونية أو شبكة الإنترنت، بل تعتمد على التواصل الشخصي وجها لوجه وما يمكن أن نسميه حوار الثلاث خطوات التي تفصل بين الداعية المبلغ ورجل عابر في الشارع يتم إيقافه بود ودعوته خلال 10 إلى 15 دقيقة، غالبا ما تنتهي بالولوج معا إلى مسجد قريب لأداء أقرب الفروض، وحضور درس ديني بسيط.

    وكما كانت الفرصة مفتوحة أمام البسطاء للانخراط في الجماعة، أتاحت الجماعة الفرصة أيضا لموظفين في الدولة والجيش لممارسة نشاط ديني لا يتعارض مع مناصبهم السياسية؛ حيث تولى أفراد من الجيش عملية التنظيم الدقيق لاحتشاد مئات الآلاف, بل والملايين في الاجتماعات السنوية للجماعة.

    بين القومي والإسلامي

    عبرت الظروف التاريخية للنصف الأول من القرن العشرين عن سعي جماعة التبليغ إلى بلورة الهوية الإسلامية الفردية, مع تجنب المشاركة في الحياة العامة بمفهومها السياسي، فقد كانت عشرينيات القرن العشرين في الهند بداية مرحلة غير مسبوقة من العنف الديني, والمنافسة على القيادة, والظهور المفاجئ للسياسة الجماهيرية؛ حيث برز هذا بوضوح عندما ظهرت أصول تاريخية متنافسة للتاريخ الإسلامي, والتي تتلخص عادة في التفسير القومي والمجتمعي والعلماني للهويات الإسلامية, وهي التواريخ التي أضفت الشرعية على أيديولوجيات متباينة.

    ولكن المنطلق الدعوي لجماعة التبليغ تجاهل هذه القضايا, وذلك على الرغم من حقيقة أنها كانت تحت قيادة أناس لا يختلفون من حيث النشأة والتفكير عن تلك الرموز التي انضمت إلى جمعية علماء الهند، والتي تحالفت مع المؤتمر القومي الهندي, وساندت الحركة الإسلامية المرتبطة بالدولة بقيادة مولانا أبو الأعلى المودودي (1903 – 1979) في ثلاثينيات القرن العشرين.

    لقد كانت حركات تلك الفترة, ومنها الحركة الغاندية بصفة خاصة, تمارس مجموعة كبيرة من الأنشطة التي تتراوح بين ما يمكن تسميته أنشطة التوجيه التي تركز على التطور الأخلاقي للفرد من ناحية، والأنشطة السياسية التي تركز على الدولة وتهتم بتشكيل وضبط الحياة العامة من ناحية أخرى، واختارت جماعة التبليغ العمل على مستوى القاعدة الشعبية غير المسيسة.

    يذهب بعض الباحثين إلى أن الجذور الصوفية لمؤسسي الجماعة والرواد المنتسبين لها هي التي وجهتهم إلى الخيار الشعبي المستهدف للبسطاء والفقراء والتائهين والحيارى، فجماعة التبليغ لم تشغل نفسها بالأبعاد السياسية التي نشأت بشكل متزامن في تلك الفترة كحركة الإخوان المسلمين في مصر بقيادة الإمام حسن البنا، أو الجماعة الإسلامية في الهند بقيادة مولانا أبو الأعلى المودودي؛ إذ إن أيديولوجية جماعة التبليغ لم تفرض برنامجا مرحليا يركز على إعداد الفرد كمقدمة لتغيير المجتمع، بل إن إعادة تنظيم المجتمع تركت ببساطة للمستقبل المجهول.

    اعتمدت جماعة التبليغ على تصور للهوية يتجاوز الإقليم أو الشخصية الجغرافية لهذه المقاطعة الهندية أو تلك، وهو ما سمح لجماعة التبليغ في النصف الثاني من القرن العشرين أن تصبح المميز الإسلامي الهندي في جميع قارات العالم، وبصفة خاصة في جنوب إفريقيا والولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، ويتفاوت تقدير المنتسبين إليها بين بضعة ملايين وأكثر من مائة مليون.

    اتخذ محمد إلياس، ورواد الجماعة من بعده، مسلكا مخالف لما أكد عليه زعماء مسلمون من أمثال محمد علي جناح مثلا الذي سعى إلى تكوين باكستان مؤكدا على الهوية الإقليمية؛ حيث يشير (في خطبة تعود إلى عام 1941) إلى هذا المسلك بقوله:

    جماعة الدعوة في الهند رحالة عبر المدن

    الأمة يجب أن يكون لها إقليم.. الأمة لا تعيش في الهواء.. إنها تعيش على الأرض, ويجب أن تحكم الأرض, ويجب أن يكون لها دولة إقليمية.. وهذه هي المهمة العظمى منذ سقوط إمبراطورية الموغال، لقد أصابنا التردي والسقوط من يومها وشهدنا أسوأ الأيام، ومطلبنا اليوم ليس من الهندوس؛ لأن الهندوس لم يسيطروا على الهند كلها أبدا، بل المسلمون هم الذين استولوا على الهند وحكموها لمدة 700 سنة، ومن ثم فإن مطالبنا بوطن جغرافي للمسلمين نوجهه إلى البريطانيين الذين استولوا على الهند من المسلمين، فمن السخف القول إن هندوستان تنتمي إلى الهندوس.

    لم تنشغل جماعة التبليغ بهذا النهج السياسي ولم يكن لها قادة بهذه الطموحات الانفصالية، وقبلت الجماعة بأن تعيش في تربة الهند وتتصالح مع مناخها السياسي.

    وبينما كانت على خط عكسي لما ذهب إليه جناح كانت أقرب إلى المتابعة -دون مشاركة- لدعوة زعماء الحركة القومية الإسلامية في الهند الذين تبنوا أيديولوجية حزب المؤتمر، على نحو ما ذهب مولانا أبو الكلام آزاد (1888 – 1958) في خطابه الشهير سنة 1940 كرئيس لحزب المؤتمر في مدينة رامجاره بقوله:

    لقد كان قدر الهند التاريخي أن يمر عليها العديد من الوجوه والثقافات والأديان, وأن يجدوا ملاذا في تربتها الخصبة… وكان من أواخر هؤلاء القادمين.. أتباع الإسلام.. وأدى هذا إلى التقاء تيارين ثقافيين لعرقين مختلفين.. لقد جلبنا معنا كنوزنا, وكذلك كانت الهند مليئة بثروات تراثها العظيم.. لقد أعطيناها ما كانت تحتاجه, وهو أثمن الهدايا من كنوز الإسلام؛ أي رسالة الديمقراطية والمساواة الإنسانية.

    وتعتبر أيديولوجية جماعة التبليغ في هذا المجال متميزة للغاية؛ لأنها لا تعطي أهمية لتاريخ الهند مطلقا, ولكنها تدعو أتباعها إلى التعمق في الأمثلة التاريخية المستمدة من الأيام الأولى للإسلام.

    وبصفة عامة لم تنشغل هذه الحركة بالتاريخ كثيرا, ولكنها لم تغفل في المقابل التركيز على الرموز الدينية التاريخية، كالاعتناء بمواقف وسير الرسول والصحابة واتخاذها نماذج للسلوك القيم والأخلاق الواجبة.

    وبهذا القفز التاريخي الواسع تروي الجماعة لأتباعها ضرورة التحول الداخلي للمجتمعات المسلمة على نحو ما تحول العرب البدو من جاهلية ما قبل الإسلام إلى حضارة الإسلام.

    وقد أدركت النخب المسلمة في الهند في النصف الأول من القرن العشرين ضرورة البحث عن عامل موحد يجمعهم، وكان هذا العامل لدى جماعة التبليغ هو الشريعة الإسلامية، وذلك للتغلب على حقيقة أن المسلمين في الهند لا يشكلون مجتمعا واحدا، بل هم موزعون على فئات مختلفة على أساس اللغة، والموقع الجغرافي، والانتماء العرقي والانتماء الطائفي.

    قضية النهضة

    كان السؤال المطروح في الهند في منتصف القرن العشرين ما سبب تأخر مسلمي الهند؟ وما السبيل لنهوضهم؟، اختلفت الرؤى والتفسيرات، وكانت إجابة جماعة التبليغ مختلفة عن إجابات القادة المسلمين المهتمين بالتفاوض على التمثيل في الدوائر الانتخابية أو المجالس أو التعليم أو غير ذلك، لكن لم يكن ذلك يعني أن هذه الجماعة بدأت كحفرية تاريخية, بل هي مثل الحركات الإسلامية الأخرى نشأت في سياق القومية والحداثة الهندية.

    بدأت الجماعة مؤكدة تمسك المسلمين بدينهم في خط متقاطع مع دعوة نهرو للحد من تدين الهند، الذي كان قد ذهب إلى القول:

    إن الأديان حاولت أن تحبس الحقيقة في قوالب ومبادئ محددة… ولم تقتصر على عدم تشجيع الإنسان على فهم المجهول فحسب, بل إنها لم تشجعه حتى على فهم ما يمكن أن يعترض جهوده الاجتماعية… ولكن مع تقدم المعرفة… يتراجع مجال الدين، ونحن في حاجة حقيقة لأن تقلل الهند من (تدينها), وأن تتحول إلى العلم.

    وتذهب بعض الدراسات إلى أن مولانا محمد إلياس لمس تهديدا مخيفا لمسلمي الهند في النجاح المتصاعد لحركة آريا سماج Arya Samaj، وهي حركة إحياء هندوسية جديدة عملت على استعادة أعداد كبيرة ممن كانوا مسلمين اسما، وعرفوا باسم المسلمين الجدد أو الناو Nau-Muslims وضمتهم إلى الديانة الهندوسية مرة أخرى، ودفع ذلك مولانا إلياس إلى الوقوف على أهمية خلق شعور بالوحدة بين المسلمين، والانشغال بالقضايا التي تعانيها الشعوب الإسلامية هنا وهناك.

    شنت جماعة التبليغ حملتها لانتقاد الممارسات العرفية والعادات المحلية المرتبطة بالبيئة الهندية، والتي تم استيرادها من الهندوس، ففي الوقت الذي كان قادة الحركات الدينية الهندوسية على الطرف الآخر يوجهون النقد للهندوس الذين يزورون أضرحة الصوفية من الأولياء المسلمين، كذلك شنوا هجوما على الهندوس الذين يقلدون ممارسات إسلامية شعبية.

    بين التقاعس والإرهاب في العقود الأخيرة وضمن مرحلة خلط الأوراق، وفي زمن تصدى فيه للتحليل والكتابة صحفيون وكتاب لم تكن لهم علاقة مباشرة بالجماعات الإسلامية ولم يخبروها عن قرب، رميت جماعة التبليغ بالإرهاب ضمن حملة الاتهامات التي شنتها الدول الغربية على الحركات والجماعات الإسلامية، وكان أبرز اتهام واجهته جماعة التبليغ في بريطانيا عام 2006 إبان إحباط محاولة تفجير طائرات عابرة للأطلسي.

    لم يقف الخلط في الأوراق عند حدود عدم القدرة على التمييز بين جماعة التبليغ وغيرها من الجامعات الإسلامية الأخرى، بل امتد الجهل والخلط إلى تصنيف عدد من المصادر الأوروبية (الإعلامية بشكل أساسي) لجماعة التبليغ بأنها حركة وهابية.

    هذا على الرغم من أن هناك موقفا متحفظا من قبل التيارات السلفية التي يسميها الغربيون وهابية تجاه جماعة التبليغ.

    فالشيخ ابن باز رحمه الله على سبيل المثال برغم أنه ذكر بعض مزايا جماعة التبليغ في الدعوة إلى الله فإنه شكك في عقيدتهم بقوله: أنا أنصحهم.. ببيان العقيدة الصحيحة.. توحيد الله.. وترك عبادة ما سواه من التعلق على الأنبياء أو الأولياء والصالحين أو غيرهم؛ لأن هذا هو الشرك الأكبر.. من دعوة الأموات والاستغاثة بالأموات والنذر لهم والذبح لهم ونحو ذلك…

    وفي فتوى أخرى يقول الشيخ رحمه الله: جماعة التبليغ ليس عندهم بصيرة في مسائل العقيدة، فلا يجوز الخروج معهم إلا لمن لديه علم وبصيرة بالعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنة والجماعة….

    المدهش أن الإعلام السلفي الذي يشكك في عقيدة جماعة التبليغ عاد ووجه تهمة التطرف والإرهاب إلى جماعة التبليغ، على نحو ما قدمت صحيفة الرياض السعودية تغطية حملت عنوان جماعة التبليغ ودورها في صُنع الإرهاب، وقد عكس هذا التضارب الحالة المتوترة في التعاطي مع الخطاب الديني في المملكة العربية السعودية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

    ليست السلفية (وما توسم به في الجزيرة العربية بأنها وهابية) هي الوحيدة التي تكيل النقد لجماعة التبليغ، فعدد من الحركات الإسلامية تعارض، وتنتقد جماعة التبليغ معتبرة أن ما تقوم به هذه الحركة من عدم تسييس قضايا المسلمين إنما يخدم أعداء الأمة المتربصين بها، بل يتهمونها بأنها لعبة في يد المستعمرين.

    هذه الرؤى تعود إلى حوادث تاريخية متفرقة يورد منها الباحث الهندي يوجندر سكند الأمثلة التالية:

    • في ستينيات القرن العشرين سعي الرئيس الباكستاني الراحل أيوب خان إلى التقرب إلى جماعة التبليغ لتشكيل توازن لمواجهة تنامي نفوذ الجماعة الإسلامية، وقد كتب المنظر الرئيسي لجماعة التبليغ آنذاك، مولانا زكريا الكندهلوي رسالة قصيرة (يزعم بعض المحللين أنها بتوصية من أيوب خان) حملت عنوان المودودية انشقاق مدعيا فيها أن رؤية الإسلاميين المنتمين للجماعة الإسلامية التي أسسها أبو الأعلى المودودي كانت لعنة من الله ولا علاقة لها بـالإسلام مطلقا.

    • الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي يسمح لجماعة التبليغ بحرية الحركة، بينما يقمع حركات الإسلام السياسي التي تقاوم الاحتلال.

    • الترحيب الهندي حتى من الجماعات والحركات الهندوسية المتشددة، حيث فضت الجماعة الهندوسية المتطرفة شيفا سينا Shiva Sina اجتماعا لها من أجل إفساح الطريق لتجمع حاشد لأنصار جماعة التبليغ في مومباي عام 2002.

    • ما أعلنته جماعة لاشكر طيبي (العسكر الطيبة) -وهي جماعة مسلحة مقرها باكستان- أن جماعة التبليغ ليست سوى أداة في أيدي اليهود والهندوس لإبطال الجهاد.

    • وفي المجتمعات المسلمة المتأثرة بالثقافة الهندية، وحين كانت جماعة التبليغ نشطة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، تعرضت لنقد بالغ من مختلف الجهات خاصة من قبل المجموعات الشبابية الصاعدة والنخب المتعلمة.

    وقد كالت هذه النخب نقدا واسعا للجماعة باعتبارها تشغل الرجال عن رعاية أسرهم، من خلال انشغالهم بالسفر للدعوة هنا وهناك وحرمان الأسر من مصدر التكسب الأساسي.

    • وفي جامعة دوربان بجنوب إفريقيا أيضا لقيت الجماعة نقدا من قبل شباب الحركات الإسلامية الأخرى، وكان أكثر أعداء جماعة التبليغ في جنوب إفريقيا هي الحركة البريلوية، والتي تسمى في جنوب إفريقيا باسم السُّنية (وهي حركة هندية النشأة ومختلف على توجهها أيضا).

    وكان أحد أسباب الخلاف هو انتقاد جماعة التبليغ لاحتفالات البريليوية بالمولد النبوي، وهو ما جعل البريليون يردون عليهم بأنهم صنيعة الاستعمار البريطاني في الهند، وهو ما يفسر -بحسب البريلوية- الترحيب الذي يلقونه من الإعلام البريطاني والغربي بشكل عام.

    التبليغ في زمن الحداثة

    رغم الجهود التي بذلتها جماعة التبليغ عبر ما يقرب من تسعة عقود من العمل الدعوي، ضمت خلالها ملايين المسلمين إلى رحاب الدعوة، وتمتين العلاقة مع دينهم، وانتشال المفقودين، والذين أسرفوا على أنفسهم والضالين هنا وهناك، فإن العقود الأخيرة التي شهدت صعود الحركات السلفية، وحركات الإسلام السياسي الأخرى قد ألقت بستار من الظلام على الجهود التي تبذلها جماعة التبليغ غير المنشغلة بالأضواء أو تغيير العالم.

    لكن الأكثر أهمية في التحديات التي تواجه جماعة التبليغ موجات الحداثة التي اجتاحت كثيرا من أجزاء العالم الإسلامي، وبصفة خاصة في التجمعات العمرانية الحضرية، ففي مثل هذه المجتمعات الحضرية التي يلهث فيها الناس من شارع إلى آخر ليس بوسع جماعة التبليغ أن تجد من هو مستعد لفقد وقته للاستماع إلى نصائح جماعة التبليغ.

    كما أن ارتفاع المستوى المهني والتعليمي لسكان الحواضر الإسلامية قد ضيق على جهود جماعة التبليغ، خاصة مع زيادة مكانة الأنا لدى المسلم الحضري المعاصر.

    وإذا أضفنا موجة الفضائيات الإسلامية التي اجتاحت حياة المسلم المعاصر في العقد الأخير فسندرك ضياع فرصة أنصار الجامعة على التبليغ في زمن لم تعد الحكاية والنصيحة والمثل الديني قادرة على التأثير، بعد إعلام أفرغ كل النصائح والحكايات والعبر من متون الكتب على مسمع ومرأى من المشاهدين.

    لكن يبقى الميدان الأرحب لجماعة التبليغ في المجتمعات الريفية والبوادي والصحاري والمجتمعات الإفريقية والآسيوية الفقيرة، وهي فضاءات جغرافية أكثر رحابة وعمقا من المساحات التي فقدتها في البيئات الحضرية والمدن والبلدات والحواضر

مشاهدة مشاركة واحدة (من مجموع 1)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد