غريزة تصنع أُمـَّة مقال ممتاز للدكتور…وائل كمال

كل البشر يولدون ولهم من الغرائز المتشابهه والمتماثلة ، فليس لأحد فضل في تعلم غريزة ما وليس لأحد القدرة على إنكار أو طمس غريزة ما ، فالجميع يشعرون بالجوع والعطش ، والجميع لديهم غريزة الحب والتواجد والأخذ والعطاء ، وهناك غريزة عاطفية في أن يملك الإنسان زمام أمور قلبه وأن يشعر بأنه مرغوب فيه في هذه الحياة ، وبعض الناس يسعده جداً أن يكون مرغوباً فيه من أي مخلوق حتى ولو لم يكن إنساناً ، فربما يسعد بحيوان أليف يريبه في منزله ، وقد تخيلت أن هناك من الغرائز البشرية غريزة بعينها تستطيع أن تصنع أمة إذا ما أُحسن إستخدامها وإذا ما تم إستثمارها على الوجه الأمثل ، والبديل لهذا الإستخدام وذلك الإستثمار هو ضياع الأمة وتشتت أوصالها.

الغريزة التي أقصدها هي غريزة الأب والأم في حب الأبناء ورعايتهم ، فلا شك أن كل أب وأم يرغبون في رؤية أبنائهم في أعلى الدرجات وفي أرقى أنواع السعادة والأمان ، ولا شك في أن الآباء والأهل يبذلون كل جهد – يعرفونه – في تحقيق هذه الأمنية والتي يعيش الكثير عليها ، وقد تصل قدسية هذه الرسالة إلى الحد الذي يظن عنده البعض خطأً أنهم يملكون أبناءهم ، فيصولون ويجولون في عقولهم وأحلامهم بما لا يرضى عنه المنطق ولا يسعى به الناس لبناء مجتمع سليم ، وهناك آخرون يشعرون بقدسية منطقة الآباء والأهل للدرجة التي تتوقف عندها حياتهم الخاصة والعامة ، وعندما يكبر الأبناء يجلس هؤلاء الآباء في إنتظار سقيم لنهاية حياتهم وكأن تلك الحياة لم تكن تستحق إلا أن يقوموا على تربية الأبناء ، وأيضاً هذا تصور خاطئ فالمال والبنون زينة في الحياة ، والزينة ليست إلا زيادة عن الأصل ولكنها في نفس الوقت مسئولية كبرى ومادة خصبة للسؤال يوم القيامة.
تنقية وتطوير الغرائز:
كل الناس تعلم كيف تشعر بالجوع والشبع ، وكلهم يعلمون أنهم لابد لهم من الطعام حتى يقاموا الجوع والضعف وهذا كله أمر غريزي ، ولكن طريقة تناول الطعام لها من الفنون والآداب ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات ، الكل يأكل ولكن كيف يأكل ؟ وبالمثل طريقة الكلام والحوار هو أمر غريزي لإثبات الوجود ، وفنون الحوار هي التي تميز بين حديث بشري تعليمي ونباح الكلاب ليلاً ، فالكل يتكلم ولكن كيف يتكلم ؟ وعلى صعيد آخر نجد أن غريزة الأمومة والأبوة تتواجد في كل مخلوقات الله وبشكل واضح لا يقبل النقاش ولا التهوين منها ، ولكن لم ولن نجد طموحات بين الحيوانات للتطور كما توجد في البشر ، فالإنسان الذي عاش يوماً حياته في العصر الحجري جنباُ إلى جنب مع مخلوقات كثيرة استطاع بفضل الله تعالى وحده أن يتطور ويتعلم ، فخرجت منه أجيال متلاحقة أكثر تطوراً وقيمة من سابقتها ، وهذا في حد ذاته معنى خطير للأمومة والأبوة البشرية والتي تختلف في مضمونها عن غريزة باقي المخلوقات.

من الجائز أن يكون حب الإنسان لأولاده قريب من حب باقي المخلوقات لأولادها ، ولكن طموح الإنسان وقدرته على تنفيذ غريزته وتطويرها غير ما تعرفه باقي المخلوقات ، وكما يجب على الإنسان أن يتعلم فنون الطعام الغريزي وآداب الحوار الغريزي ليظهر بشكل يليق بمكانته ، فأعتقد أنه يجب عليه أن يتعلم تنقية وتطوير غريزة الأمومة والأبوة ، وعليه أن يتعلم كيف يكون أباً قبل أن يمارس ذلك ، والأم يجب أن تتعلم كيف تصبح أماً قبل أن تتقدم لتنال هذه الوظيفه وهذا الشرف ، فلا يمكن لأحد أن يقود سيارة قبل أن يتعلم ويتقن فن القيادة ، ولا يجب أن يتقدم أحد لعلاج الناس قبل أن يتعلم ويتقن فنون الطب ، وكذلك لا يجب أن يقدم شاب أو فتاة على استخدام غريزة الأبوة والأمومة قبل أن يتقنا ويتعلما الفرق بين تربية حيوان أليف بالمنزل وتربية عبد مُكرَّم من عباد الله ، كما أن تعليم الطب أو الهندسة أو أي حرفه أخرى يتطلب أن يحب المحترف حرفته قبل أن يتعلمها أو يمارسها ، واليوم نحن نتحدث عن حرفه غريزية موجودة عند الجميع بفضل الله تعالى ، والرحمة المنبعثة من الأمومة والأبوة كافية بأن تكون الوقود الحقيقي لتعلم كيفية التربية ، ولذلك يجب أن يكون هناك دراسة بعنوان كيف تكون أباً وكيف تمارسين الأمومة ، وأعتقد أنها علوم ضرورية بل هي أعلى وأغلى من أن نهملها ، كما إنني أعتبرها الدراسة الوحيدة الفرض على كل مواطن ومواطنة في أمة قد إمتلأت بكل الحِرف الصناعية والزراعية والإجتماعية في الوقت الذي تناقصت فيه لديها الحرفة الوحيدة القادرة على صناعة نهضة تلك الأمة … حرفه الأمومة والأبوة.