الرئيسية منتديات مجلس الثقافة العامة من ذكرياتي في الجزائر(ولاية الجلفة).

مشاهدة 4 مشاركات - 1 إلى 4 (من مجموع 4)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #118793

    من ذكرياتي في ميدان التعليم في( ولاية الجلفة) بالجزائر.
    الجزء الأوّل من الموضوع:
    منذ اللحظة التي حطّت فيها الطائرة التي تقلّنا في رحلتنا إلى الجزائر الشقيقة،في مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة،ومشاعر الغبطة والسرور ممزوجة بمشاعر الفخر والاعتزاز تتملكني لأنني اليوم سوف أصافح بلد المليون شهيد،وسوف أشدّ بقوة على يد كلّ مناضل ومناضلة دفعوا من دمائهم ضريبة الحرّية،وضحوا بكلّ غال ورخيص ليرتفع علم الجزائر مرفرفاً خفاقاً فوق سارية مطار هواري بومدين،وفوق كلّ مبنى وبيت من بيوت المناضلين الجزائريين الأحرار.
    لقد أثبت شعب الجزائر وخلال مراحل كفاحه،ومنذ أن تأجج فتيل أول شرارة للثورة،وحتى أعلن المستعمر الفرنسي جرّ أذيال الخيبة والاندحار والرحيل عن ثرى الجزائر الأبيّة،أثبت وللعالم الحرّ أجمع أنّ الحريّة تؤخذ ولاتعطى،وأنّ ما يستلبه العدوّ منّا بقوة السلاح،لايستردّ بغير قوة السلاح،وأنّ من يريد أن يفرض على عدوّه شروط التفاوض،هو القويّ والمسلّح، بعزيمة وتماسك شعبه وأمته التي تقف وراءه كالبنيان المرصوص،وهذا ماحدث في جزائر العروبة والكفاح،عندما وقفت الأمة العربيّة في مصر وسورية والعراق واليمن،وفي كلّ شبر من أرضها الممتّدة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر،تشدّ أزر ثوار الجزائر،وتدعم كفاحهم بالمال والسلاح إلى أن بزغ فجر الحريّة والتحرير.
    ولكنّ الجزائر بعد أن انتزعت حريتها واستقلالها،وبعد أن قدمّت على مذبح الحريّة مليون شهيد،كان لابدّ لثوار الجزائر أن يكملوا مسيرة التحرير بثورة ثقافية تشمل كلّ قرية ومدينة على امتداد الساحة الثقافية والتعليمية،بل في كلّ حيّ أو شارع فرض المحتلّ عليه ثقافته ولغته،وكأنك عندما كنت تمشي في الجزائر العاصمة بعيد الاستقلال،أو حتى بعد وصولنا إليها،تجد على الأرض غزواً استعمارياً من نوع آخر،ففي الفنادق والمقاهي لايخاطبك النادل إلا بالفرنسيّة،وإذا ماعلم أنك من الشرق،ترفّع عن خدمتك وتلبية طلباتك،وكنا نأخذ هذا بالحسبان ،ونعلم علم اليقين أنّ هزيمة العدوّ في معركته عسكرياً،أمام صمود وتضحيات شعب الجزائر لايعني تقهقره واندحاره ثقافياً،وخاصة وأنّه خلال فترة احتلاله استطاع أن يفرنس كلّ الأسماء والمحال والشوارع وحتى الفنادق والمطاعم أصبحت فرنسية التعامل
    والتجاذب مع زبائنها،ومن لايتكلم الفرنسيّة لايحترم بنظر هؤلاء الجهلة،والذين هم من المخلفات العفنة للمحتل الفرنسي المندحر.
    ومن هنا كان تخطيط الثورة والثوار إلى محاربة هذه الامتدادات الثقافية لبقايا العدوّ،وذلك عن طريق تعريب كلّ ماهو مفرنس على أرض الجزائر،وما أطلقه الثوار من حملات لتعريب كلّ مرفق من مرافق الجزائر،وبدؤوا بالتعريب من المدارس الابتدائية،وصولاً إلى المدارس الثانوية،ثم الجامعات،حقاً لقد خاض الإخوة الجزائريين بعد استقلاله ثورة ثقافية أشبه بثورة الصين الثقافية.
    ومن هنا جاء إيفادنا إلى القطر الجزائري للمساهمة في حملة التعريب التي يشهدها
    هذا القطر المناضل الشقيق.
    ولم أكن أعلم إلى أيّة مرحلة قطعت ثورة التعريب في الجزائر، عندما وصلت إليها عام 1977 موفداً من قبل وزارة التربية في بلدي سوريا، لأعمل مدرساً للغة العربية في إحدى ثانوياتها،ولكن كلّ ماكنت أعرفه هو: ما أن نهض الشعب الجزائري من كبوة الاحتلال حتى أشعل الشمعة الأولى في مولد ثورة التعريب للقضاء على مخلفات العدوّ الثقافية.
    ومضت ثورة التعريب قدماً إلى أن حصدت نتائج طيبة على الصعيد الوطني الجزائري،و تجلت على الصعيد القومي في دعما وإحياء اللغة العربيّة وتراثها الذي حرص الشعب الجزائري وخلال مراحل كفاحه الطويل الحفاظ على ذخائرها وعلومها، ونشرها في شتى الميادين،وبكلّ الوسائل المتاحة ،بدءاً من تعليم القرآن الكريم في الكتاتيب إلى أعلى المستويات في معاهد وجامعات الجزائر.
    ومن ثمّ يعني الاهتمام بها والتبحّر في علومها،وهي ثلاثة عشر علما:الصّرف،والإعراب،ويجمعهما اسم النّحو،والرّسم،وهو العلم (بأصول كتابة الكلمات)والمعاني والبيان،والبديع ،والعروض، والقوافي وقرض الشعر والإنشاء والخطابة وتاريخ الأدب،ومتن اللغة،وهي العلوم التي يتوصّل بها إلى عصمة اللسان والقلم عن الخطأ, عدا أنّها تعني المحافظة على المخزون الثّقافي والحضاري للغتنا.لأنّها من أهمّ مقومات وحدتنا العربيّة ،وهي الرّابطة التي تجمع بين كلّ النّاطقين بالضّاد:
    لغةٌ أذا وقعت على أسماعنا = = كانت لنا برداً على الأكباد
    ستظلّ رابطةً تؤلّف بيننا = = فهي الرّجاء لناطقٍ بالضّاد
    ولقدنعتت لغتنا العربيّة بأنّها أمّ اللغات واللواء الذي ينضوي تحته العرب ،كما يقول الشّاعر المهجري فوزي معلوف:
    ولتسعد لغة الضّادالتي دعيت = = أمّ اللغات شباباً برده قشب
    إن لم نكن كلّنا في أصلنا عرباً = = فنحن تحت لواها كلّنا عرب
    ولغتنا العربيّة سيّدة اللغات وأحبّها وأعذبها،تخضع لها اللغات الأخرى كما يقول الشّاعر المهجري أبوالفضل الوليد:
    كلّ اللغات تذلّ للغة التي = = عزّت وقد كانت أحبّ وأعذبا
    لذلك كانت ثورة التعريب تنطلق من هذه المبادئ في الحفاظ على لغتنا العربيّة،
    بتعريب كافة مرافق الدولة حتى آتت أكلها،وانتشار الأقسام المعربة في كلّ مدرسة من مدارس القطر وجامعاتها.
    ومساهمة منّي في الحفاظ على لغتنا العربيّة،عنوان هويتنا الحضارية والثقافية كتبت محاضرة بعنوان:(العربيّة أمّ اللغات)ألقتها في المركز الثقافي العربي في سلمية،بدعوة من نقابة المعلمين،بمناسبة اليوم العالمي للغة الأم،أقتطف بعضاً
    مما جاء في أحد محاورها حول التعريب في القطر الجزائري الشقيق:قلت:
    (ومن خلال تجربتي بالتّعليم فـي القطر الجزائري الشّقيق, أجــد أنّ التّعريب ساهم مساهمـة فعّالة بالحفاظ على اللّغة العربيّة في هذا القطر, الّذي تعرّض لأكبر اعتداء في التاريخ على أرضه وشعبه وثقافته ولغته مـن قبل العـدوان الفرنسي ومن قبل الشّعوبيّة.وأذكر حادثة شخصيّة وقعت معي وأنا اركب الحافلة متّجهاً من ولايــة الجلفة إلى الجزائر العاصمة, فقد جرى حوار بيني وبين من يشاركني المقعد عن اللّغة العربيّة بعــد أن علم أنّني أعمـل مدرّساً لها بدار المعلّمين قـال : نــحن الجزائريّين لا يربطنا بالعروبة إلا الإسلام نافياً كونه عربيّ ويتكلّم العربيّة, وطبعاً كان هذا الرّجل بربرياًّ. فأجبته: هذا جيّد, مادمت تعترف بالإسلام ديناً.فلا بدّ أنّك تقرأ القران الكريم كتاب الإسلام الذي نزل على نبينا محمد (ص) فهلا أجبتني بأيّة لغة نزل القران الكريم ؟ وهنـا هزّ برأسه ولم يجب وكأنّه لم يقتنع وقطع الحديث.
    وكــان أن صارت دعـوة التّعريب إعـلان ثورة, وشعار مـرحلة, وهتاف جهــاد, ونداء معركة, أصدرها الرئيس الرّاحل هواري بو مدين في نيسان عام 1968م. تذكر الدكتورة بنت الشّاطئ : ( لقد كان مـن جديد ما شاهـدت من معالم الجزائر العربيّة الحـرّة, مكتبة الجامعة في مبناها الشّامخ الأنيق, الّذي شيّد في تلك المرحــلة الّتي حــدّد فيها الرئيس بو مدين موعــداً أقصاه عـام 1970م. لاستكمال تعريب كافة دوائر ومؤسسات الدّولة, ونفض بقـايا الصّبغة الدّخيلة التي ترفضهــا الأمّـة. )
    وممّا أثلج صدري ،وادخل السّرور إلى قلبي، ماكتبه د. عبد الكريم الأشترأستاذي في جامعة دمشق كتب في مجلّة المعرفةالعدد /531 / للعام السّابق، عن تجربة التّعليم في الجزائرقال: (لقد أمضيت في الجزائر أربع سنوات،في مطلع السّبعينات،عملت فيها في جامعة وهران،في الغرب الجزائري الذي تأثّر كثيرا بدعاوى الفرنسة فكنت أدخل بعض المؤسّسات الرّسمية فما أكاد أسمع إلاّ الحديث بالفرنسيّة .وكانت لنا جارةٌ لطيفةٌ لاتنقطع عنّا،فكانت إذا نادت ولدها ردّ عليها مجيباّّ: (وي) وكان لايتعدّى السّابعة فكنت أقول لنفسي :ماأفدح ما أصابنا من أذى هؤلاء الغزاة !ثلاثة أجيالٍ طويلةٍ رزحت الجزائر فيها تحت كلكلهم،وأورثت أولادها هذه الهويّة المهوّشة،حتّى بات يصعب عليها أحياناّ أن تفرّق بين لسانها ولسان الغزاة).ويتابع الأشتر الحديث :(غبت عن وهران عشر سنين ثمّ عدت إليها،فأطللت يوماً من نافذة الفندق وكنّا في جوار إحدى المدارس الابتدائيّة،فرأيت حشود الأولاد،في انصرافهم من المدرسة،ينشدون في الطّريق،بالعربية المدويّة،أناشيد الثّورة التي تعلموها وأحبّوها.فمن أين يتخطّى أولئك النّاس هذا المدّ البشري العظيم؟ ومن أين لهم أن يخترقوا هذه الأسوار).
    والحـقّ أنّنـا نعيش اليوم نضالاً مستمراً مـن أجل المحـافظة على لغتنا التي هي خـزانة ثقافتنا. ومـا نضال إخواننــا في الجزائر, أو في كلّ الأمصار العربيّة, ضدّ العـــدوّ الذي عمد إلى طمس معالم لغتنــا وثقافتنا ونشر لغته وثقافته, إلا مــرحلة مـن مــراحل هـذا النّضال, الذي تقع مسؤوليّته على مفكّرينا وأدبائنا, كما يقول الدّكتـور شوقي ضيف في كتــابه ( في النقد الأدبي) : ( إنّنا نعيش اليوم في عصر صراع, ومــن واجب الأديب أن يصارع مـع أمّته, وأن يكون جزءاً حيوياً في هذا الصّراع بل جزءاً متداخلاً فيه, يستمدّ منه بـواعثه, وأفكاره ومبــادئه, ويرتبط ارتباطـاً قويـاً متّصلاً, لا أن يبقى انعزاليّاً, كـأنّه يعيش فــي برج عـاجيّ, لأنّ هـذا البرج يلتصق بأمّته, أراد ذلك أم لم يرد ).
    فحــذار…حــذار, مــن الدعوات الإقليميّة, والنّزعات الشعوبيّة و الطائفيّة, لأنّ لغتنــا لا تعظم إلا بعظمة قومهـا. وفي هذا المعنى يقول شاعر النّيل (حافظ إبراهيم):
    أرى لرجال الغرب عزّا ومنعةً = = وكم عزّ أقوام بعز ّلغــــــــات
    أتــوا أهلهم بالمعجزات تفننّــــا فيـا ليتكم تـــأتون بالكلمـــــات
    فلا تكلوني للزّمــــان فــــــإنّني = أخاف عليكم أن تحين وفــاتي
    فكلّما كـانت لغتنا العربيّة عظيمةً, كلّما كان لأمّتنا مكانتها ورقيّها بين الأمم.)

    وكان أدوات التعليم أيام نضال الجزائر ضد الاحتلال، كما ذكرت آنفاً،تعتمد فيما تعتمد على مشايخ الكتاتيب في تلقين أبناء الجزائر علوم القراءة والكتابة،وكان كلّ من يعرف القراءة والكتابة قد اشترك في العملية التعليمية لمحو أميّة الصغار والكبار،ولمّا استقلت الجزائر،وبوشر بثورة التعريب،اعتمدت وزارة التربية الجزائرية على الأخوة المدرسين المعارين والمتعاقدين الوافدين إليها من مصر وسورية وغيرهما من الدول العربيّة الشقيقة،بموجب اتفاقيات تعليمية وثقافيّة أبرمتها مع هذه الدول.
    في إكمال خططها الوطنيّة،لتعريب كافة مرافق الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، وبدأ مدّ التعريب ينتشر… وينتشر حتى شمل الجزائر كلّها،وعلى مستوى رسمي نشط التعريب في المدارس والمعاهد والكليات، بدءاً من المرحلة الابتدائيّة وحتى الجامعة.ولرفع مستوى المعلمين الجزائريين الذين كانوا يقومون أعباء التعليم أيام الاحتلال البغيض،فإنّ وزارة التربية الجزائرية أقامت لهم دورات تعليمية لمدة عام،فمن نجح في هذه الدورة ثبّت معلماً وبقي على رأس عمله،ومن لم ينجح في هذه الدورة،ترك التعليم ،ليعمل في ميدان آخر.
    وكان تعييني في أحد معاهد المعلمين المتوسطة في ولاية الجلفة،وهي ولاية تقف حدّاً فاصلاً بين الأطلس التلي والأطلس الصحراوي،ولكنّها مرتفعة وارتفاعها هضابي،باردة كثيراً في الشتاء، ومعتدلة في فصل الصيف،يقصدها سكان المناطق الصحراوية من الأغواط وغيرها للاصطياف بها في فصل الصيف، هرباً من شدّة قيظ وحرارة مناطقهم.
    كان معهد المعلمين الذي عينت به في ولاية الجلفة جديد الإحداث ،ويبنى له بناء
    مستقل ،لذلك أقيم في بناء غير ملائم يقع مكانه انب مديرية التربية في ذلك الوقت أي عام 1977
    ولم يقتصر التعليم في المعهد على دورات المعلمين القدماء فقط،والذين أشرت إليهم آنفاً،وإنما شمل طلاباً حصلوا على شهادة التعليم المتوسط،وكانت خطة وزارة التربية تقضي بأن يدرس هؤلاء الطلاب في المعهد لمدة عامين،ثم يتخرجون
    ويعينون كمعلمين في المدارس الابتدائية،ولا أعلم إن كان تعيينهم سيتم لصالح ولايتهم فقط،أم يعينون لصالح ولايات أخرى.
    وكان يشاركني تدريس اللغة العربيّة في المعهد أستاذ آخر من مصر،ولم يكن هناك كتاب مطبوع،ولا إدارة مستقلة له ،تباشر شؤونه وتشرف عليه،
    بل أذكر أنّ مديرية التربية التي كانت تشرف على المعهد،قد ألحقت شؤونه الإدارية والمحاسبية بالثانوية الوحيدة في ذلك الوقت في مدينة الجلفة،ومنذ بداية العام وزع علينا نحن المدرسين خطة عامة،بمواد منهاج اللغة العربيّة،وكان علينا أن نسير وفق هذه الخطة ،فنحضّر النصوص المناسبة،ونمليها نصاً،وشرحاً وتطبيقاً على الطلاب الذين لم يكن بحوزتهم أيّ كتاب مطبوع في مادة اللغة العربية ولا في غيرها من المواد.
    وكان للوقت الطويل الذي تستغرقه الحصّة الدرسيّة؛ على مدى ستين دقيقة،وفي أكثر الأحيان ،يتمّ الجمع بين حصتين متتاليتين،أي مائة وعشرين دقيقة،كان لهذا
    الوقت الطويل فائدته وجدواه،والذي يجب عليك أن تشغله، وتشغل به أكثر من خمس وثلاثين طالباً وطالبة،يحدقون بك،ويصغون إلى ما تقوله أو تشرحه لهم،أوما ما تمليه عليهم، دون أن تجعلهم يشعرون بالضجر أو الملل من درسك،لذلك كنت ألجأ إلى كتابة أكثر أبيات أو مقاطع النص الأدبي على السبورة؛مع شرح مفرادته الغامضة.وبعد نسخ الطلاب النص على دفاترهم،وقراءته النموذجيّة من قبلي،ثم قراءته قراءات متعددة من قبل الطلاب وبمشاركتهم أيضا أعمد إلى شرحه والتطبيق عليه بيتاً بيتاً،فلا ننتهي منه شرحاً وتطبيقاً إلا مع انتهاء الوقت المقرر،وهو ساعتان كاملتان،دون أن أترك فرصة لحديث غير نافع مع طلاب اغلبهم كان في مرحلة مراهقة فكريّة وشبابية.
    ومما يجدر التنويه عنه،ولفت الانتباه إليه،هو ما كنت ألحظه من وجود كثيف لطلبة المعهد في حصتي اكثر من العدد المسجل في دفتر حضور الطلاب،وعندما كنت أسال الحارس المكلّف باستلام دفتر التفقد أو الحضور،عن سبب وجود مثل هذا العدد الكبير من الطلاب في حصتي،كان يقول لي:إنهم يحضرون معنا من الفصول الأخرى،لأنّ شيخ الفصول الأخرى لايعطيهم إلا أربعة أو خمسة أبيات،ثم يطلب منهم حفظها غيباً كقطعة استظهار.
    وهكذا يمضي العام الدراسي بمذاكراته واختباراته دون حاجة لوجود مشرف أو موجه أو مراقب،فالمشرف والموجه والمراقب في الصف دائماً وأبداً هو ضمير المعلم وخلقه.
    وأذكر عندما نجتمع مدرسي المعهد مع مدير الثانوية الذي كان مكلفاً كما قلت بالإشراف الإداري على المعهد،لتقييم مستوى تحصيل الطلاب،ومدى انضباطهم الذي لم نكن لأنا ولاغيري يجد مشكلة فيه،لأنّ ماكان عليه طلاب المعهد من وعي ومن رغبة في طلب العلم، كافيان لتحديد سلوكية الطلاب جميعاً وهذه نقطة إيجابية،أقدرها لمن أعددناهم ليكونوا معلمي جزائر الغد المشرق.
    أما بالنسبة للمستوى التعليمي،أذكر أنّ السيّد المدير يستعرض معنا درجات كلّ طالب،وما أعطاه المدرسون لكلّ طالب من درجات في مختلف المواد،كان السيد المدير يقف عند بعض الدرجات العالية التي أعطاها زملائي لطلابهم ويعقب عليها
    بالقول،لو نعلم أنّ عندنا طه حسين في اللغة العربيّة،أو فيثاغورث في العلوم،لما استعنا بكم وأحضرناكم من بلادكم لتعليم(الدراري بتاعنا)باللهجة الجزائرية الدارجة.
    إنّ الدرجة التي تمنح لأي طالب،لاتعطي لتقييمه في الاختبار،وإنما تعطى لتقييم مستوى الطالب في المادة بشكل عام،ويكمل:هذا هو الأستاذ حيدر ،لم يعط لأي طالب أكثر من أربع عشرة درجة في اللغة العربيّة،هل يعني هذا أنهم لايستحقون أكثر من هذه الدرجة في اختبارهم؟؟إنّ هذه الدرجة المعطاة من قبله لطلابه هي لتحديد مستواهم العقلي والدراسي في مادة اللغة العربيّة.
    وكان زملائي مدرسو المواد الأخرى،ينصتون بانتباه إلى ما يقول ولا يستطيعون أن يجيبوا على نقد المدير الذي أعتقد أنه كان محقاً فيه،لا لأنه كان يمدحني أمامهم،فأنا وإياه دائماً كنا على خلاف في كثير من الأمور التربوية التي لامجال لذكرها هنا،وإنما لأنني اكتشفت خطأنا في دول المشرق العربي،الذي كان وما زال تقييمنا لطلابنا، يعطى حتى في الجامعات على أساس الاختبار الذي قدمه الطالب،وليس على أساس المستوى العام للطالب ،والذي لحظه المدرس من خلال تصحيحه ورقة إجابته على الأسئلة المقررة.
    وهنا لابدّ لي أن أقف وقفة تذكر وحنين إلى بعض الصحبة من المدرسين،الذين ما أن ينتهي الاجتماع بالمدير،كانوا يعقبونه على نقده وأقواله،بالقول:(نيالك يا أبا محمود )،انبسط بلهجتنا السورية وليس باللهجة العراقية،انبسط المدير رضيان عنّك،ونضحك..على معنى الكلمة باللهجة العراقية..).
    لقد كان الأستاذ (زكي..) مدرس العلوم وهو من مدينة الموصل في العراق.والذي لاأعرف عنه شيئاً بعد أن غادرنا الجزائر،ولابعد الأحداث الجسام التي مرّت على عراقنا الحبيب،ولا أعرف إن كان حيّاً،وأتمنى ذلك لعلّ تحياتي التي أزجيها له ولزوجه التي كانت ترافقه في إعارته إلى الجزائر،وكانت تحضن أولادي الصغار(خلود عامان،ومحمود عام واحد)كانت تحضنهما وترعاهما وكأنهما ولديها،أما زوجها الأستاذ زكي مدرس مادة العلوم في المعهد،فكان يتصف بروح مرحة،وكن ترى الابتسامة لاتفارق ثغره،وهو يتجوّل بين الطلاب أثناء الاستراحة يتحدث معهم ويمازحهم وكأنهم زملاؤه لاطلابه،وهذا ما لم أستطع أن أقوم به خلال المدة التي قضيتها في التعليم، والتي استمرت لمدة أربعة عقود تقريباً،تنقلت فيها في محافظات قطرنا،وعلّمت فيها في الجزائر واليمن.مهنة نظيفة وشريفة أحببتها،وأفنيت فيها عمري،وجهدي العقلي والبدني..ولكن لم أحصد منها إلا على ذكريات…وهكذا المعلّم عزيزي القارئ لايحصد من جهوده المضنية،في سبيل نشر أهداف العملية التعليمية والتربوية،لايحصد إلا الذكريات على ما بذله وقدمّه من جهود وتضحيات.
    سلمية في/22/11/2009
    الكاتب:الأستاذ حيدر حيدر
    للموضوع:تتمة ،أرجو متابعته مستقبلاً.

    #1364327

    لك تحياتي اخي ولي ملاحظه على الخط يجب ان ترك فراغات بين الاسطر شكرا

    #1365948
    آسية
    مشارك

    السلام عليكم
    اشكرك على الموضوع انا جزائرية واعمل مدرسة وفخر لنا هذا الكلام من سورية بلد الرقة والجمال ولكن يا استاذي وزميلي الفاضل المربي يجني ايضا راحة باله وحب طلابه و الاجر من الله ان شاء الله
    جزاك الله خيرا على ما قدمته للاجيال ان حسنات المعلم تحسب في كل تلميذ تعلم منه شئ وعمل به وافاد به وربما يعلمه بدوره ويبقى هذا من جيل الى جيل والحسنة بعشرة وزيادة فهل يستطيع احد خساب حسنات المعلم المربي المتقن الصادق ……….الله اكبر

    #1366023
    جميلة13
    مشارك

    السلام عليكم شكرا أخي موضوع رائع و ذكريات أروع في جزائر الشهداء ، و تحية لأهل سوريا فإنا نحبهم

مشاهدة 4 مشاركات - 1 إلى 4 (من مجموع 4)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد