الرئيسية منتديات مجلس أخبار ومقالات مقالة عن : تاريخ عمان المعاصر

مشاهدة 8 مشاركات - 1 إلى 8 (من مجموع 8)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #11430

    نشرت جريدة القدس العربي في السادس من شهر يونية مقالا عن تاريخ عمان المعاصر. وجدت المقالة في موقع الجريدة على هذه الشبكة العنكبوتية و لكنها أي المقالة كان فيها أخطاء طباعية كثيرة. لذا قمت بتعديل هذه الأخطاء و حذف أرقام الإشارة للهوامش حيث لم تنشر الجريدة الهوامش المشار إليها في المقالة بتلك الأرقام. و رأيت أن يستفيد من تلك المعلومات التي وردت في المقالة أعضاء مجالسنا و موضوعها عن تاريخ عمان المعاصر. و رغم أن الجريدة لم تشر إلى كاتب المقالة أو المصدر أو فيما إذا كان منقولا أو مترجما عن كتاب فبنشرها هنا ربما نجد من يكون من الأعضاء يعرف شيئا أو قد قرأ الكتاب الأصل.

    #376828

    تقديم

    رغم الاهتمام المتزايد بمنطقة الخليج وأهمية سلطنة عمان فإنه لم ينشر بحث يحلل عملية بناء الدولة في عصر السلطان قابوس، لذا يأتي هذا الكتاب مساهمة في هذا الإطار. والكتابات القليلة الموجودة في هذا الموضوع تعتبر ضمن الكتابات التي تستند إلي الانطباع الشخصي لمؤلفيها أكثر من كونها تعتمد علي أساليب البحث العلمي. وهذا الكتاب عبارة عن محاولة لتكوين صورة شاملة تدمج مختلف مجالات التغير من خلال التأكيد على تحليل مسيرة نمو الدولة والانتقال من الكيان البدوي إلى دولة منظمة. وفي هذا البحث سيجري التطرق للمذهب الديني (الأباضية) الذي ينتسب إليه أغلب سكان عمان، ودوره في عملية الانتقال من دولة بدوية إلي دولة منظمة. وبالإضافة إلى قيمة الكتاب كمصدر لتاريخ عمان في فترة البحث، فإنه من المتوقع أن يكون الكتاب ذا فائدة للمهتم بالتغيرات التي تحدث للمجتمعات التقليدية لحظة التقائها مع عملية التحديث.

    إن هذا الكتاب هو بحث تاريخي يتحرى شكل العملية أو المسيرة التي خلالها تُغيّر المجتمعات القبلية – التي تفتقد للمؤسسات وأجهزة الدولة – صورتها مع الزمن، وتتحول إلى دولة. والأحداث معروضة هنا في إطار تحليلي يدمج، بين أشياء أخري، نظريات من علوم مختلفة، خصوصاً الانثربولوجيا وعلم السياسة، ودمج أدوات بحثية مأخوذة من علوم مختلفة في تحليل تاريخي يساعد في تحديد أنماط الاستمرار في عملية الانتقال من كيان بدوي إلى دولة منظمة. وعلي سبيل المثال فإن البحث يستقي ايحاءات من دراسات في مجال الانثربولوجيا السياسية بشأن مصادر تطور الدول، وخاصة في المجتمعات القبلية، وشكل القيادات في مجتمعات كهذه، والميكانزمات المتضمنة في إجراءات بلورة القوة والصلاحية. وبطريقة مشابهة فإن الأدوات المأخوذة من علم السياسة تساعد في فهم مسائل الهوية الجماعية ومؤسسات الدولة، في محاولة لتحديد إلى أي مدى أثرت أشكال السلوك القبلي في تشكل الهوية وفي عملية اتخاذ القرار في الدولة.

    #376829

    المقدمة

    هذا البحث يعالج موضوع تطور عمان تحت حكم السلطان قابوس بن سعيد، وهي الفترة التي تشكل عصراً جديدا في تاريخ عمان. ويتناول البحث عقد السبعينات من القرن العشرين، وهي السنوات التي تشكلت فيها السمات الأساسية لسلطنة عمان في العصر الجديد. وحتي ذلك الوقت تميزت عمان بالتخلف في أغلب مجالات الحياة، وهذا نتيجة لانقطاع متواصل عن التأثيرات الخارجية، إضافة إلي غياب ديناميكية إجتماعية، مع وجود نظام غير فاعل. وهذا الواقع وجد في عمان منذ سنة 1856م، سنة وفاة السلطان السيد سعيد بن سلطان، الذي كان بداية النهاية للإمبراطورية البحرية التي سيطرت على مناطق الخليج الفارسي وعلى الشاطئ الشرقي لإفريقيا. وجاء انقلاب يوليو 1970م وصعود قابوس للحكم ليعطي إشارة لبداية تغيير دراماتيكي، والذي تم التعبير عنه في مجالات مختلفة من الحياة العامة في عمان. لقد شكل عقد السبعينات مرحلة حاسمة في نمو عمان الجديدة، حيث بدأ هذا العقد بعمليات إصلاح شاملة خصصت لعلاج أمراض التخلف الاجتماعي والاقتصادي في عمان. وهذه المسيرة أصبحت ممكنة بفضل الدخل الكبير الذي وفره النفط، والذي أصبح الدعامة الرئيسية للاقتصاد العماني، لكن المسيرة نبعت كذلك من الحاجة لايجاد جواب للتحديات الفورية التي مثلت أمام العمانيين، حيث وقفت عمان في بداية العقد أمام تهديد ملموس من جانب منظمة سرية ذات توجه يساري مدعومة من النظام الماركسي في اليمن الجنوبي. كما أنه في بداية العقد تم إخلاء القوات البريطانية من الخليج الفارسي، وأجبرت عمان على التكيف مع الواقع الاستراتيجي الجديد حيث حاولت كل من إيران والعراق تقوية مواقعهما كدول عظمي علي الصعيد الإقليمي.

    هذا البحث يعالج تطور الدولة العمانية كبؤرة تحليل متعدد الأبعاد، من خلال تفحص الأوجه المختلفة لهذه العملية، وذلك كما يلي: تأسيس الجهاز الحكومي، وتطبيق السياسات الموجهة لتحقيق الاندماج الديموغرافي والجيوبوليتيكي، وتطور السياسة الخارجية الساعية لدمج عمان في الإطار الإقليمي. والنقاش يتركز في هذا السياق على الطريقة التي واجه بها النظام التحديات الداخلية والخارجية، والطريقة التي رد فيها المجتمع على التغيرات التي طرأت عليه عند تطبيق السياسات الجديدة من قبل النظام. إن فهم المعطيات المميزة لعمان عن بقية دول المنطقة عامل مهم وضروري في النقاش، وبهذا الخصوص سيتطرق البحث للمعطيات الأساسية التالية:

    #376830

    المجتمع والثقافة:

    تتكون عمان من فسيفساء لأقليات إثنية ولغوية متركزة في مناطق محددة في الدولة. هذه الأقليات – بعضها هندي وبعضها عربي – أقاموا حياتهم بشكل مستقل وانصهروا في الثقافة العمانية وأكسبوها تعددية إثنية. وفي وسطهم برز أبناء الخوجا – وهم مسلمون من أصل هندي – الذين حددوا مكان إقامتهم منذ بداية القرن السادس عشر قرب الميناء المركزي لمسقط، وتمتعوا باحتكارات حقيقية في مجال التجارة بمختلف أنواعها. وتوجد مجموعة إثنية أخري تمتعت بموقع خاص في المجتمع العماني هي البلوش ، وهي من أبناء قبائل من منطقة بلوشستان (منطقة الشاطئ الشرقي لخليج عمان الذي يفصل بين إيران وباكستان) الذين هاجروا للساحل العماني قبل مئات السنين وتحولوا إلى قطاع ثابت في المجتمع العماني، وهؤلاء دمجوا خصوصا في قوات الجيش والشرطة. والبقية كانوا عمانيين من أصل عربي، ومرتزقة جلبوا من إيران وباكستان وبقية المناطق الواقعة تحت السيطرة البريطانية سابقاً . وبالإضافة إلى هذه التقسيمات يوجد تقسيم مستمد من المميزات البيئية لعمان: المزارعون وأهل الصحراء وسكان الجبل، وكل واحدة من هذه الجماعات تختلف عن نظيرتها من حيث اللهجة وطريقة الحياة والثقافة السياسية. والمجتمع العماني هو مجتمع قبلي وأسسه التنظيمية وجدت منذ هجرة القبائل العربية إلى عمان في القرن الثاني لصعود الإسلام. وعمليات الهجرة والتحول الدائم للسكان امتداد مئات السنين، وخلال الزمن تجذر المهاجرون، ومن خلال التصاهر وجدت كيانات قبلية جديدة.

    #376831

    البعد الديني:

    إن أغلب عرب عمان (حوالي 55% من مجمل سكان البلاد، التي كانت تضم في بداية عقد السبعينات 450 ألف نسمة)، محسوبون علي المذهب الأباضي الذي أسسه عبد الله بن أباض المتوفي سنة 748 ، وإضافة للأباضية توجد أقلية كبيرة من السنة حوالي 40%، وأقلية صغيرة من الشيعة حوالي 5%. والمذهب الأباضي تأسس في البصرة في القرن السابع من خلال انشقاقه عن الخوارج الذين خرج أتباعهم من معسكر علي بن أبي طالب زمن حربه مع الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان خلال حرب صفين سنة 657 على خلفية المحاولة لوقف الحرب بالتسوية أو بالتحكيم. وهؤلاء ادعوا أنه لا بد من الاستمرار في الحرب وأنه لا حكم إلا لله واعتبار أن ترك الأمر في الحسم للبشر يعتبر كفراً، ومثل بقية الخوارج رأى الأباضيون أنفسهم كمن يعيش معزولاً عن بقية الجماهير الإسلامية منذ موت الخليفة الثاني عمر بن الخطاب سنة 644، وكانوا قد رفضوا حكم الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رغم أنهم لم يستقلوا إلا في فترة حكم خليفته علي.

    انتهت أجنحة الخوارج المتطرفة مع مرور الزمن ولم يبق سوى المذهب الخارجي المعتدل (الأباضية)، والمؤمنون به تفرقوا في ارجاء العالم الإسلامي، وقامت دول أباضية في شمال أفريقية وفي حضرموت جنوب اليمن وفي عمان. والتجمعات الأباضية الموجودة حتى هذا اليوم في شمال إفريقيا وشرقها وكذلك في عمان تدل على ذلك. وفي شمال افريقيا أقام الأباضيون مدينة مزدهرة كان مركزها في تاهرت شرق الجزائر، والتي استمرت أكثر من مائة وثلاثين عاماً من سنة (776-909م). وبعد تخريب مملكتهم علي يد الفاطميين انسحب الأباضيون إلى عمق صحراء سهاري وتركزوا في مناطق منعزلة مثل واحات الصحراء في مادي مزاب، وأحياناً في جزيرة جربة (تونس) وفي جبل نفوسة، وهناك يقيمون شعائرهم حتي هذا اليوم.

    وفي مقابل ذلك نجح الأباضيون في عمان بتثبيت وجودهم ، كما إن الإمامية الأباضية استمرت وذلك بفضل، من بين أسباب أخري، الاتجاهات المعتدلة التي طورتها بشأن مسألة السلطة والمجتمع . وهكذا رفضت الأباضية أساس المذهب الخارجي المؤمن بالقتال من دون هوادة ضد المسلمين من غير المذهب الخارجي لأنهم ضلوا عن طريق الإسلام النقي. ورأى الأباضيون أنفسهم أهل الشورى، واعتقدوا أن الجماهير الإسلامية يجب أن يحكمها إمام منتخب، ورفضوا توارث السلطان. وبتبنيهم هذا المنهج فإن الإباضيين يحافظون على المبدأ المهم في الحكم إلاسلامي، فالزعيم السياسي والروحي (إمام) للجماهير يجب انتخابه علي يد علماء الدين وأعيان القبائل علي أساس معايير مثل، التضلع في الدين والمستوي الاخلاقي المرتفع، والقدرة على القيادة والمعرفة بالقواعد التي يقرها الإسلام. وللجمهور الحق في خلع الإمام الذي ينحرف عن هذه المبادئ، وأكثر من ذلك أباح المذهب الأباضي وضعاً يدير المجتمع فيه نفسه بدون زعيم. وهكذا شكلت الإمامة الإباضية إلى حد كبير نوعاً من التقوية الدينية للتراث السياسي القبلي المبني على أساس القوة، وناسبت إلي حد كبير ظروف المجتمع القبلي.

    #376832

    البعد الجيوبوليتيكي:

    إن موقع عمان جعل منها جسراً ضرورياً ومنحها مهمة مركزية في الشبكة التجارية العالمية حتي في زمن الحضارات القديمة. وذلك لأنها تسيطر علي مداخل المحيط الهندي والخطوط التجارية بداخله، التي تمتد من سواحل افريقيا الشرقية وحتي الصين، وكذلك منحها الموقع مكانة وتأثيرا في مياه الخليج الفارسي، وطور مسارات اتصال وتجارة مع فارس والعراق وشبه الجزيرة العربية، وكذلك أماكن أخرى في الشرق الأوسط. وقد برزت مركزية عمان كنقطة التقاء في محور تطور شبكة تجارية بحرية تصل الشرق بالغرب وإيران بالعراق، منذ أيام المملكة الساسانية التي احتلت أجزاء من الأرض العمانية، وفي أيام امبراطوريات أخرى بعد صعود الإسلام. وهكذا، على سبيل المثال، خلق التزايد في حجم التجارة في أيام الخلافة العباسية فرصا عديدة لجمهور التجار، الذين تركزوا في الميناء الساحلي العماني، صحار، الذي تحول إلى مركز تجاري مزدهر. وفي القرن العشرين اصبحت، بفضل موقعها الاستراتيجي وسيطرتها على الجناح الجنوبي لمضيق هرمز في مداخل الخليج الفارسي، تحتل موقعاً ضرورياً وحيوياً لدول الخليج والعالم الغربي، فيما يخص أمن الملاحة في المنطقة وتأمين طرق النفط.

    #376833

    البعد الجغرافي:

    الساحل العماني الذي يمتد بطول 1700كم، يختلف عن الطابع الجبلي والصحراوي للمناطق الداخلية في الدولة، وهذا الاختلاف الجغرافي وجد التعبير عنه في تشكل مجتمعين، وصراع تطور على قاعدة التناقض بين سكان الشاطئ وسكان الداخل، وكان لذلك تأثير حاسم في تطور عمان. ويمكن القول ان تراثين سياسيين مختلفين شاركا في تطور عمان . الأول هو تراث الدولة القبلية الإمامية وهي من أهل الداخل المنعزلين، وهم أصحاب اقتصاد معيشي مميز، ويمتاز الشكل القبلي البنيوي لهم بأنه يدار بواسطة إمام يعين بالاختيار(نظرياً بواسطة شخصين فقط يعطونه البيعة، وعملياً بتأييد رؤساء القبائل الكبيرة ورجال الدين الكبار)، وفقاً لتعاليم الإسلام على المذهب الأباضي. أما الثاني فهو تراث الدولة القبائلية على الساحل، سلطنة مسقط، المشهورة بأعمال سندباد الملاح أو كتب الملاح، التي تركها ملاحون مشهورون مثل أحمد بن ماجد. إن هذا التراث يصنف عمان كدولة تجارية بحرية، حيث تحرك تجارها في القرن الثامن من الصين إلى شرق إفريقيا. وهذا النشاط هو الذي ساهم في إقامة سلطنة مسقط كدولة تجارية بحرية عظمي، كانت لمدة أكثر من قرنين من (1624-1856م) القوة المسيطرة في المنطقة، وسيطرت على طرق التجارة في غرب المحيط الهندي والخليج الفارسي. وبعد ذلك تراجعت وأصبحت مناطق معزولة على شاطئ مقرن الباكستاني حتى سنة 1958م، ومنطقة أخرى في شرق إفريقية مركزها في زنجبار وحكمت بواسطة أحد فرعي ألبوسعيد. وتوجد مخلفات أثرية تدل علي اتساع تأثير الامبراطورية العمانية.

    ويوجد خط مميز تمت المحافظة عليه في عمان عبر الزمن وهو انفتاحها على الشرق وحضارته. وفي تاريخ عمان يظهر تأثير العلاقات الخارجية مع إيران والبحرين وشرق أفريقيا وشبه القارة الهندية والشرق الأقصي. هذه العلاقات مكنت عمان من فهم التاريخ الآسيوي والإفريقي، وأحياناً الوقوف على ما يحدث في هذه المناطق بصورة أفضل من اي مجتمع عربي آخر، ولهذا السبب كان من السهل على عمان أكثر من معظم جاراتها أن تستقبل الآخرين بدماثة وترحيب، خاصة من جنوب افريقية.

    وهكذا تشكل، منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر، مركزان للسلطة في عمان – سلطنة الساحل في مسقط وإمامة عمان في الداخل – وبذلك عكست عمان صورة ذات وجهين، ازدهارا وانفتاحا من جهة ومحافظة وانعزالا من جهة أخري. وبشكل أساسي فإن التاريخ العماني يعكس اللحظات السياسية الحضارية التي وجدت – بين أشياء أخرى – تعبيرها حتى سنة 1970م في اللقب الذي منح لحكام بيت ألبوسعيد: “سلطان مسقط وعمان”.

    #377394

    القبائل والدول في سياق البحث

    هذا البحث يركز على مسيرة التغير، التي شهدتها عمان من كيان قبلي إلى جهاز دولة منظم. وينشغل البحث عملياً في تحليل الجهاز السياسي للمجتمع، الذي عاش طوال تاريخه من دون أن تكون له دولة بالمفهوم الغربي، لكنها وجدت من خلال عملية تحول من قبيلة إلى دولة. وبحث كهذا يشير إلي التركيب والنماذج الخاصة التي تميز عملية إقامة الدولة في مناطق ما زالت القبائل تتمتع فيها بنفوذ كبير.

    تعتبر القبائل والدول نموذجين منفصلين للكيانات، واصطلح الباحثون على ان القبيلة مجموعة واسعة من الناس منظمة على أساس صلة الدم والنسب الجيني. أما الدولة فهي في نظرهم تنظيم قائم على أساس التضامن المدني، يستوجب وجوده توفر مجموعة ولاءات أوسع من تلك القائمة على أساس صلة الدم فقط. ومن ممثلي هذه النظرية البارزين الباحثة بتريشة كرون، التي ادعت “أن القبيلة والدولة الحديثة تمثلان طرفين لطيف بنيوي، وأن الانتقال من أحد الطرفين الى الآخر(من قبيلة لدولة) ينطوي علي تطورات غاية في التعقيد، حتى أن أحد طرفي الطيف يجب أن يختفي قبل أن يلوح الآخر في الأفق”. والاستنتاج من هذا الوصف يتلخص في أن القبائل عكس الدول، يجب أن تتغير بشكل راديكالي، بل وربما حتى ترك الطابع القبلي نهائياً.

    إن الافتراضات الأساسية لهذه النظرية غير كافية لإيجاد أدوات تحليلية لمواجهة الواقع الأكثر تعقيداً. إن تعريف مفهومي “قبيلة” و”دولة” بخطوط حدية حاسمة لا ينسجم مع الواقع في شبه الجزيرة العربية، خاصة عمان، حيث تأسس هناك طوال مئات السنين النظام الاجتماعي على أساس مركزية القبيلة في حياة السكان. والافتراض المقبول هو أن القبيلة وحدة إثنية تنتسب إلي أصل مشترك – يشعر أعضاؤها بأنهم وحدة مميزة من حيث الأصل والاقتصاد المشترك التعاوني ومنطقة المعيشة الواحدة – وهي أشياء مطلوبة بدرجة كبيرة بسبب الطبيعة القبلية، وربما من المحتمل خلق إحساس أن المقصود هنا مؤسسة أحادية، لكن ليس الأمر هكذا، فالقبائل يمكن أن تشمل بداخلها نماذج إثنية مختلفة وأن تعكس تعددية الأساس العائلي. وكذلك فإن نشاط القبائل يدل على وجود علاقات سياسية أو علاقات حماية بين الجماعات وليس فقط علاقة دم. والجماعات القبلية لا تحسب فقط على البدوية الرعوية، وليس بالضرورة أن تكون جماعات بدائية معزولة. وفي الواقع فإنه في مجتمعات معينة عملت القبائل في الزراعة وكانت صلتهم ضعيفة بالحياة البدوية والرعوية. والحالة العمانية تشير إلي حد كبير الي الإشكالية الكامنة في تعريف القبيلة وفق مصطلحات مثل، مستوى المعيشة الأساسية، الأمية والجهل، انعدام التفاضلية أو عدم وجود الطبقات، وغياب كل أنواع المؤسسات. فمثل هذه التعريفات استخدمت كثيراً كأساس لأبحاث عديدة. غير أنها لا تناسب الواقع القبلي العماني الذي يوجد به حراك اجتماعي محدود ويجب تحليله بمصطلحات تناسب حالته الاجتماعية.

    هذا البحث الخاص بالجهاز القبائلي جنوب شبه الجزيرة العربية، ينظر للقبيلة كوحدة سياسية توجد في أساسها عدة مجموعات فرعية – سلالة عائلات أو أفرع لعائلات واسعة- بنت مع الوقت آليات لتعاون اقتصادي سياسي وحتى تحالفات نتيجة لالتقاء المصالح أو بسبب الوجود في منطقة مشتركة. ويسعي البحث للتأكيد على وجود القبيلة ومعيشتها في بيئات مختلفة، بعضها بدوي وبعضها مأهول، بأحجام مختلفة وبتنظيمات سياسية مختلفة. والبحث يشدد على مدى التنوع الذي يمكن للقبيلة أن تعكسه بمصطلحات ثقافية، الأصل والطبقات الاجتماعية وأنواع العلاقات القائمة بين الجماعات القبلية. لكن يقع في قلب النقاش الفيتو القبائلي كجزء من بنية قبلية متعددة وأكثر اتساعاً، وعملياً كجزء من دولة. ومن الواضح أن القبائل كانت مرتبطة بالدول، وشكلت جزءا من جهاز الدولة وأقامت علاقات مع حكم مركزي. وهذا الافتراض يساعد البحث على إظهار أن القبائل يمكنها خلق تنظيمات دولة (لأجل التعاون في إدارة القوافل التجارية والدفاع المشترك وهكذا) والاندماج فيها، وكذلك للتشويش عليها أيضاً، وللحفاظ على حدود ثقافية يصعب على الدولة كسرها.

    والأسئلة التي تثار حول مؤسسة الدولة نفسها كثيرة ومتنوعة. والأبحاث بشأن بناء الدولة في الشرق الأوسط، التي تتطرق للدولة كجسم سياسي مستقل يثير ويعكس تغييرات اجتماعية، ليست قليلة أو نادرة. وهذه الأبحاث كتبت بوحي من تحليل عميق لدراسات عن دول أوروبا وأمريكا اللاتينية أو الولايات المتحدة . ومع ذلك فإن النقاش في موضوع تكوين دولة في الشرق الأوسط ينطوي علي صعوبات عديدة، تبدأ من تحديد المفهوم. والباحثون بشأن الدولة يقولون ان الدولة هي: “صلاحية ذات سيادة تستند إلي الطاعة وقوة الإكراه في إطار إقليم محدد تمارس عليه الاحتكار لفرض الصلاحية واستخدام القوة”. وفي هذا الصدد دمجت استنتاجات أدبيات الحداثة التقليدية مثل آراء دافيد آبتر وجيمس كوامان اللذين اعتقدا أن الروابط البدائية تناقض الولاءات المدنية وأن تلك الروابط تشكل أحد التهديدات الجديدة للدولة الحديثة. أما النظرية المقبولة فقد صاغها جيداً عالم الإنثربولوجيا كليفورد جيرتز الذي قال “إن المواجهة بين الولاءات البدائية والمدنية هي التي تمنح للقبيلة الطاقة والقدرة علىي تهديد الدولة أكثر من أي مشاكل أخرى تواجهها الدولة الحديثة .

    وهذا التعريف لا يلائم بالضرورة الواقع الشرق أوسطي وليس فقط دول شبه الجزيرة العربية. وهذا البحث يتبنى تعريفا آخر لمفهوم الدولة مستمدا من أبحاث لعدد من الباحثين مثل بيتر نيتل ويوئيل مجدال ويوسف كوستنر الذين قالوا ان الدولة هي تنظيم مرن ودينامي، يوضع باستمرار أمام تحديات داخلية وخارجية. وزعماء الدول مطالبون بردة فعل على هذه التحديات وتجهيز الدولة للتغيرات الحادثة في القريب. والدولة بناء على ذلك تتحرك باستمرار بين وضع من القوة والضعف، ومن الناحية العملية زوال أو تكيف مواصفات الدولة أو- إذا استخدمنا المصطلح الذي استخدمه الباحث – بيتر نيتل – “مستوي دولاني”.

    وهذا البحث يؤكد السيولة في تعريف مفهوم الدولة ويدّعي أن البني السياسية يمكنها تقديم مستويات مختلفة من “الدولانية”. وبهذا فإن مصطلح “دولة” في هذا البحث عبارة عن مصطلح تقني في جوهره، يعبر عن إطار يسيطر على مجتمع في إقليم محدد. وهذه المشاكل يجب عدم تناولها وكأنها مفهومة، بالرغم من أنه بسبب غياب التراث التاريخي والثقافي المناسب فإن فكرة الدولة ستضعف في مجتمعات كثيرة، لأن جهاز الدولة كان له أثر حاسم في مسيرة التطور لكل مجتمعات هذا الزمان. ولذلك فإن تحديد ماتين هافر أنه “في أحوال سياسية مختلفة، أو في وضع سياسي في فترات تاريخية مختلفة تنشأ حالة أكبر أو أقل لـ” دولانية” خاضعة لمقادير التوجيه الذي تقوم به الدولة للمجتمع نحو أهدافه الأساسية” يعتبر نقطة أساسية في تحليل مؤسسة الدولة في هذا البحث.

    وحسب المنهج المعروض أعلاه يمكن فهم أن القبائل كانت منظمة في إطار دولاني ولم تكن وحدات سياسية منفصلة، ولكن كجزء من أطر أكبر وأقوي حتى تمنح القبائل الأمن وتستجيب لحاجاتها السياسية والاقتصادية الأساسية. والباحث يوسف كوستنر طوّر نموذجا ل”دولة قبلية” يتميز الجهاز السياسي فيها بتقسيم السلطة بين الحاكم وسكان المدينة وأبناء القبائل على أساس الحقوق والواجبات. ومع ذلك فقد حافظت الجماعات القبلية على قدر كبير من الاستقلالية والتسوية السياسية بينهم وبين الحاكم، ولهذا فإن التغيير وارد. والدولة القبلية أقيمت غالباً في الضواحي من الأراضي الإسلامية – صحاري شبه الجزيرة العربية وشمال العراق- في ظروف طبوغرافية منعت سيطرة فعالة للحكم المركزي العثماني، وهذه الدولة لم تكن لها حدود ثابتة، والقبائل بداخلها لم تؤسس حياتها علي أساس قواعد لعبة سياسية ثابتة، والتحالفات عقدت ثم نقضت بانتظام. هذه الدولة تميزت بجهاز حكومي محدد، والتسوية السياسية فيها اكتسبت طابع الصدفة وليس الطابع المؤسسي.

مشاهدة 8 مشاركات - 1 إلى 8 (من مجموع 8)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد