الرئيسية منتديات مجلس الثقافة الأدبية والشعر جـراحَــاتُ الألم ومَصـيرُها الضَّائِع ..

مشاهدة مشاركاتين - 1 إلى 2 (من مجموع 2)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #112580
    maarmaar11
    مشارك

    جـراحَــاتُ الألم ومَصـيرُها الضَّائِع ..

    نـذيـرٌ هو اسمُه شابٌ تجاوز التاسعة والعشرين، مُقبلٌ على الثلاثين بذراعين خائبين، لم يكن قبل اليوم الشخص نفسه، لم يعرف فرحةً، ولا بسمةً، ولا بهجةً نقيةً في حياته.. ولم يتحسس يومًا راحة نفسيةً، ولم يدخل رئتيه هواءُ الطمأنينة ولم يتشبع في صدره قط ..

    في ملامح وجهه النقي الذي وإن طغت عليه طفرة السرور، وتسللت عبر ملامح أرجاء وجهه، إلا أن هنالك لمحةً عميقة من الحزن، يتحسَّسُها عميقُ الرؤية، ويستطيع فك شفرتها متعمق النظر.. والتي يحاول نذيـر إخفاءها عنوةً.. ربما محاولاً أن ينسى، أو ربما محاولاً أن يُبعد تساؤلات المحيطين به، أو ربما هربًا من تساؤلات نفسه التي يفرُّ منها محاولاً التقدم للأمام ناسيًا الماضي وما كان.. وما جرى..

    وُلد في أسرةٍ بسيطةٍ في قريةٍ صغيرةٍ، وككل أصحاب القرية كانت أفراد العائلاتِ فيها تتجاوز الخمسة أفراد.. كان نذيـر أكبر إخوته السبعة، لم ينل من التعليم حظه الكبير، وخرج من المدرسة في سنٍ مبكرةٍ ليساعدَ والده في إعالة أفرادها الذين كان أصغرهم معوقًا، وأوسطهم مكفوفًا، وباقيهم متمدرسين يحلمون أن يصبحوا يومًا ما ذوي مكاناتٍ عليا..

    كان الحِمل قد زاد على والدهم الذي يملك قطعة أرضٍ صغيرةٍ يسترزق مما تنتجه من خيراتٍ يسيرةٍ، ولم يكن جشعًا نهمًا للدنيا وملذاتها، بل قنوعًا يحمد الله على مصدر رزقه هذا، ولكن الذي كان يؤرقه ويُكدر صفو أيامه ذاك الجانبُ المظلم من صفقةٍ عقدها يومًا مع أحد كبار القرية الذي كان غنيًا ذا جاهٍ ومالٍ، ومكانةٍ يعرفها القاصي والداني في كل أنحاء القرية، وحصل أن وقـع صاحب المزرعة في أزمةٍ ماليةٍ خانقةٍ جعلت الديون تتراكم عليه بعد أن خسر محصول السنة كلها بعد أمطارٍ طوفانيةٍ، ولم يجد ما يسد به ديونه التي طوقت رقبته وأبعدت عنه النوم والطمأنينة، فعقد تلك الصفقة اللعينة مضطرًا. وتعهد أن يمنح ثري القرية مبلغًا من المال متفقٌ عليه، بعد كل محصول سنة يحصده، مقابل أن يدفع له كل ديونه. وصارت حياته كلها اليوم معلقةً على جشع هذا الغني الذي أعمى الطمع قلبه، ولم يشبع مما أعطاه الله له وأغناه به. ومنذ تلك الحادثة أصبح لزامًا على نـذير أن يتوقف عن الدراسة، مجبُورًا كي يساعد والده في المزرعة وغيرها من المسؤوليات هنا وهنالك.

    لم يكن يؤرق نـذيـر توقفه عن دراسته، ولم يكن يهتم لتلك الصفقة اللعينة التي طوقت عنق جميع الأسرة تحت رحمة هذا الثري، ولا حتى تعبه وضناه وهو الطفل اليافع المقبل على الحياة، بل الذي كان يضنيه شيء آخر، وما كان يؤرقه أمرٌ آخر، وما كان يحزنه كربٌ كبيرٌ.. لم يكن يستطيع أن يخرجه من قلبه الذي تكدر همًا وأسى.. وبعث على روحه وهنًا يصعب انتشاله..

    وُلذ نـذير بين أبوين شديدا التنافر بعيدان عن الانسجام، لا يصطلحان يومًا إلا ليختلفا فيه في الغد، كانت أمه قد أوتيت قبحًا خُلقيًا زاد في توتر علاقتها بزوجها، ولم تكن ترأف لحاله ولا لما يتكبدهُ من عناءٍ بعد تلك الصفقة اللعينة، ولم يكن يهمها من حياتها إلا أن تأكل وتلبس وتؤكل أولادها وتُشبعهم وتسمنهم، وما كان يهمها من أين يأتي بالرزق أو كيف يجلبه، المهم أن يأتي به.

    كانت كثيرة المشاحنات، شديدة الشكوى، غير راضيةٍ عن حالها، ساخطةُ، متذمرة آناء الليل وأطراف النهار، هوايتها تكدير صفو وقيتات زوجها لما يعود منهكًا من عمله، وتسليتها الوحيدة اللعب بأوتار راحته وتكدير ساعاته.. وكثيرًا ما تشاجرا لسببٍ أو من غير سببٍ، وكثيرًا ما علت أصواتهما لتغطي سماء حياة الأطفال وتبعث بسحبها رياح التوتر والقلق وانعدام السكينة، حتى أصبح تنفس شجارهما أشبه بتنفس الهواء الذي لا مفر منه إلا إليه. وكانت أصواتهما التي تعلو لا تنتهي إلا بتلك الاستشاطة التي تعلو محيا الزوج، فينفعل غضبًا ويشتعل غيضًا، وينهال ضربًا على زوجته، فيشبعها من كل أنواعه وأصنافه الفيض الغزير، ويذيقها من كل أشكاله السيل الغمير..

    كان منظر الأطفال الصغار مؤثرًا جدًا، يختبئ أصغرهم تحت وسادته مفزوعًا مخبئًا دموع عينيه تحتها.. ويتسلل بعضهم متغلفين بحجة الدراسة، لا يقرؤون من سطور دروسهم إلا هلامات المرِّ المفطر للقلب، ويصمت المكفوف مبتلعًا قهره منزويًا في ركنه المعهود لا يتحرك حتى تنتهي الحرب بين والديه، أما نذيـر -أكبرهم- فكان ككبش الفداء دومًا يتحمل نتاجات حروبهم، وهو يحاول تسوية الوضع بينهم، يحاول أن يُسكت بعضًا من صراخاتهم، أو يوقف حدة سطوة الأب على جسد والدته التي لا يعرفُ إن كان سيحمِّلها وزر ما يحدث أم يحمله لوالده !!

    كثيرًا ما تأذى مع والدته بعنف أبيه وسطوته على جسد أمه الضعيف، وكثيرًا ما تفطر قلبه قهرًا على عيشته التي لا تعرف شيئًا من الراحة، وكثيرًا ما خرج في أنصاف الليالي يمشي من غير هدى إلى حيث تأخذه قدماه، يحاول أن يهرب من فكره القاسي الذي يكاد ينفجر إلى حيث لا يدري..

    كان تائه الفكر، شارد الذهن في كل الأوقات، متأثرًا بانعدام الأمان في بيته، وكثيرًا ما سرح في وسط المزرعة وهو يراقب أبقار الفلاحين المجاورين وهي تداعب عجولها، وتمرحُ معهم في ساحات البساتين، حتى أنه كان يغارُ من حنانها الذي ما عرفه وهو الإنسيُّ البشريُّ..

    لم يكن يمضي في البيت الوقت الكثير، فمجرد أن ينهض صباحًا وبعد ارتشاف قهوته، يخرج وأبيه للحقل ولا يرجعان إلا مساءً بعد أن يأخذ منهما التعب كل المآخذ.. كان يحلم بجلسة أسرية تجمعه وأبويه وأخوته، ويتمنى لو شهد يومًا اجتماعًا عائليًا كما يفعل كل أفراد الأسر، يتمنى أن يسمع صور القهقهات والضحكات والمداعبات والحكايات.. ولكن أمنياته كلها بقيت معلقة في سماء خياله، لم تتحقق أبدًا على أرض واقعه..

    ومرت سنوات طفولته كئيبة حزينة لم يشبع من براءتها وعفويتها الكثير، إلى أن احتضنته المراهقة يومًا، وبدأت ملامح الطفولة تفر من محياه شيئًا فشيئًا.. وهاهو ذا الشاب قد تجاوز العشرين سنة بكثيرٍ.. يحمل عن والده من أعمال المزرعة الكثير، ويبلع بصمت الصراعات الأسرية، ويتجرع آلامه بصمت.. حتى أضحى صامتًا، ساهيًا، لا يحب الكلام الكثير، متقوقعٌ على نفسه لا يحب الاختلاط بالناس، ليس له لا صديق ولا رفيق، إلا الطبيعة وهواءها الذي يلتقيهما كل يومٍ ويعانقهما كل ليلة.

    كثيرًا ما فجّر والده غيضه في أبناءه، وكثيرًا ما آذى أطفاله الصغار بعنفٍ لأسباب تافهة لا تستحق كل غيضه وغضبه، فبمجرد أن يأمر بشيء ولا يلبى إلا وانهال على أبناءه ضربًا بسوطٍ يخبؤه تحت سريره، وينهال على كل من تقع عليه عيناه، ولا يتركه إلا بعد أن يشبع من منظر الدم المتقاطر من جسد أحدهم، وكانت الأم كلما تدخلت لتبعد سوطه من على فلذات أكبادها، إلا ونالت شيئًا منه يرديها صريعة في الأرض تبكي وتتحسر آلامها وحياتها المنفرة التي لا يستصيغها امرؤ فوق هذه الأرض..

    كثيرًا ما كان نذيـر يختلي بنفسه، ويفكر في سبب هذه العيشة التي يحياها والداه، ولماذا لا يتفقان يومًا، ولم يحاولان أن يكدرا طعم الحياة بهذا الشكل الفضيع.. فلم يكن يجد لأسئلته إجابات، بل وكان يضيف إلى تساؤلاته حيراتٍ أخرى، تشتت تفكيره، وتضيعُ فكره العاقل، الذي أضحى يبتعد عن العقل من إثر هذا العنف الذي صار يتنفسه ليل نهار.. وتأكد من أنه لا مناص من هذه الفوضى التي يعيشها وإخوته، فالحال قد تجدر والمعيشة قد تعودوا عليها فلا فرار..

    وأصبح لانفراد نذيـر بنفسه انعكاساتٌ على مناحي تفكيره.. وصار يفكر بأن يهرب بروحه من تزعزع الأمان الذي نشأ وإياه منذ طفولته، وأن يبحث لنفسه عن أمان آخر بعيدًا عن جدران هذا البيت الذي ما عرف فيه يومًا طمأنينة من كثرة مشاحنات والديه وعنف أبيه بالأخص. ولكن أين يهرب.. وكيف.. ومتى..؟؟

    في أحد الأيام وهو يسير في إحدى البساتين، متجهًا لبستان والده، إذ به يستمع صدفةً إلى مجموعة من شباب القرية وهم يتحدثون عن الغريب الذي أتى للقرية والذي وعدهم بأن ينقلهم عبر قاربه من حدود شاطئهم الأمين إلى حدود بلدٍ لم يحلموا أن يطئوها يومًا..

    ((إسبـانيــا)) حلمُ كل شباب القرية اليائسين من الحياة..

    لم يفكر نذيـر طويلاً وبسرعة هـرعَ لهؤلاء الشباب مبديًا رغبته بالانضمام إليهم، وبسرعة البرق عرف شروط الفرار، وقيمة المبلغ المالي الواجب دفعه، ليتسنى لهم الهروب من القرية الصغيرة.. ولم يرجع للبيت في ذلك المساء إلا بعد أن قرر أن يفر من القرية ومن بيته ككل.

    دخل البيت كعادته.. استلقى على سريره، وسرح بفكره بعيدًا يفكر فيما يحمله له الغد من جديد.. يحاول أن يرأف بنفسه التي قد تترجاه بالعدول عن فكرته، ولكنه كلما تذكر التشتت الذي يعيشه، والصراعات المتتالية التي يتنفسها يومًا بعد يوم.. كلما تأكد من قراره ومن تطبيقه اليوم قبل الغد..

    في جانبٍ آخر من الحياة.. يتنفسُ نذيـر هواءًا غير هواء قريته الصغيرة ونسيمها العليل.. وهاهو ذا بين أحضان مدينة أخرى يحاول أن يجد له فيها عن مكان.. يتوسد سماء المدينة الغريبة، ويفترش أرضها العارية.. يتحسس نفسه فيجدُ فيها شيئًا من أمان.. وإن لم يكن أمانًا كاملاً وطمأنينة مرجوَّة، ولكنه على الأقل بعيدٌ عن التوتر والحرمان الذي عاشه.. يتساءل بينه وبين نفسه هل أحسن بالرفرار من مأساته النفسية، التي طالما كدرت حياته هناك.. ويتساءل ما الذي ينتظره في هذا البلد الغريب الذي قد لا يرحم !! وما الجديد الذي سيحمله له الغد في طياته ؟؟ وكيف ستكون خطواته في قادم الأيام في هذا البلد الغريب؟؟ وما الذي ينتظره فيه…

    #1295489
    WARS CRIMINAL
    مشارك

    فلندع الأيام والقدر يمشي بما شاء رب العالميـن

    ولكـن قبل ان نتوقع اي شي علينا بأن نكون راضين بما سنواجه .

    اخوي او اختي الغاليه .

    اشكرك على هذا الموضوع الرائع ,

    تقبل مروري المتواضع

مشاهدة مشاركاتين - 1 إلى 2 (من مجموع 2)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد